بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
(يوم السبت 16 شوال 1439هـ الموافق لـ 30 يونيو 2018هـ)
صلة السيد سليمان الندوي بشبلي النعماني وأشرف علي التهانوي:
أعطاني الأستاذ مزمل صديقي مقالا بالبارحة للأستاذ السيد سلمان نجل العلامة السيد سليمان الندوي حول صلة أبيه بالعلامة المحقق شبلي النعماني والعالم الرباني أشرف علي التانوي، نشر في عددي يناير وفبراير لعام 2016 من مجلة معارف الصادرة في أعظمكراه، الهند.
يتحدر السيد الندوي من أسرة حسينية النسب مشهورة بالتقوى والعلم، وينتمي إلى بيت كريم من بيوت الأشراف، كثير المآثر والمفاخر، معروف بالعلم والأدب، والفضل والإحسان، كان جده المولوي محمد شير الملقب بالحكيم السيد محمدي من الأطباء المعروفين في عصره، وكان عالمًا ربانيا جمع بين العلم وصلاح القلب والتصوف، له “النور المحمدي” كتاب في سير أعلام التصوف، طبع في أعظمكراه، وكتابان في الطب: قرابادين محمدي، ومخزن الحكمة العليا، وكان أبوه السيد أبو الحسن كذلك طبيبًا ماهرًا، متصفًا بالزهد والتقوى، ومثالاً للآداب العالية، والأخلاق الفاضلة، والطهارة والنظافة، وكان شقيقه الأكبر أبو حبيب عالمًا، طبيبًا ومتصوفًا، معنيّا باتباع السنن، ومحاربة البدع، قضى حياته في الزهد والتقوى.
وكان العلامة الجليل المؤرخ العظيم شبلي النعماني (ت 1332هـ/1914م) ذا خبرة واسعة في مجال التعليم وتجربة كبيرة في التربية، مضطلعا من اللغات العربية والفارسية والأردية، والعلوم الإسلامية، وملما بالثقافات الحديثة، وقد عززت فيه رحلته إلى العواصم الإسلامية شعورًا قويا بإصلاح النظام التعليمي وتغيير المقررات الدراسية في المدارس العربية والإسلامية، فلما أسست ندوة العلماء وجد فيها ضالته المنشودة، ووقف لها نفسه وأفكاره واهتماماته، ووافى دار العلوم لندوة العلماء عميدًا لها سنة 1905م، ففرح طلابها فرحًا شديدًا، وأعربوا عن إعجابهم البالغ بعقد الحفلات استقبالاً له قدموا فيها خطبهم، وقصائدهم في الثناء عليه، وأنشد السيد سليمان قصيدة باللغة الفارسية يمدحه فيها مدحًا عطرا، ومما امتاز به العلامة شبلي النعماني هو معرفته للرجال، فخصص السيد سليمان من بين من اختار من الطلاب للتربية والتعليم، وأخذ السيد الندوي عنه الأدب العربي، وقرأ عليه “دلائل الإعجاز”، كما أخذ عنه علم الكلام، وتدرب عليه في الكتابة والتأليف والإنشاء، والعناية بالسيرة النبوية.
كان السيد سليمان يحب شيخه شبليا محبة كبيرة ويجله إجلالا بالغًا، كلما ذكره نطقت كل كلمة منه بالمحبة التي يكنها صدره، ويضمرها قلبه، وكان يرى نفسه ابنًا معنويا لشبلي، ولما مات شبلي حزن حزنا شديدًا، يقول: “حزنت على وفاته حزنا لم أحزن مثله، وخشيت على نفسي، وكان الرائي يرى أن دمي قد جف، ووجهي أصبح مصفرا”.
ويقول السيد الندوي في مقدمة كتابه “حياة شبلي”: “من النكران للجميل أن أرى أني أديت بتأليف “حياة شبلي” شكر شيخي المرحوم تجاه فضله، فإن فضله علي وكرمه ومنه على هذا العبد الحقير يستعصي على العد والإحصاء، وله علي ثلاث منن لا أستطيع شكرها:
الأولى أنه أخذ بإصبع هذا العاجز وعلّمه السير والمشي، ومكنه من القراءة والكتابة حتى يخدم الدين والأمة حسب مستطاعه.
والثانية: أنه قام بتوجيهي بعد تخرجي في دار العلوم – وهي أخطر مرحلة الحياة – توجيهًا سديدًا أحاطني بحب العلم والغرام بدراسة الكتب، وحفظني من التيه والحيران، وسأل كبار أهل بيتي أن لا يشغلوني بمهنة الطب، وأوقفني على عتبة العلم والأدب.
والثالثة: أنه بدأ حياتي العلمية بالمرحلة التي ختم بها حياته العلمية، فاستشغلني خلال حياته بكتابة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأوصاني بها بعد مماته، وكلفني بدراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع موادها، ونقدها، وتأليفها بالبحث والتحقيق، والحمد لله على هذه السعادة في الدنيا، وأرجو بها المثوبة في الآخرة”. (حياة شبلي 11-12).
والشيخ العالم الفقيه أشرف علي بن عبد الحق الحنفي التهانوي الواعظ المربي المعروف بالفضل والأثر، ولد بقرية تهانه من أعمال مظفر نكر لخمس خلون من ربيع الآخر سنة ثمانين ومائتين بعد الألف، وأخذ عن فتح محمد التهانوي، ومحمود حسن الديوبندي، والسيد أحمد الدهلوي، ويعقوب بن مملوك العلي النانوتوي. وسافر إلى الحجاز وأخذ الطريقة عن الشيخ الكبير إمداد الله التهانوي المهاجر إلى مكة المكرمة. ودرس في كانبور، ثم لزم موطنه يعلم الناس ويعظهم ويقوم بإصلاحهم وإرشادهم، وصار مرجعًا في التربية والإرشاد، وإصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق، يشد إليه الرحال، ويقصده الراغبون في ذلك من أقاصي البلاد وأدانيها، وانتهت إليه الرئاسة في تربية المريدين، وإرشاد الطالبين، والاطلاع على غوائل النفوس، ومداخل الشيطان، ومعالجة الأدواء الباطنة والأسقام النفسية. وكانت أوقاته مضبوطة منظمة. وله مؤلفات كثيرة نافعة انتفع بها الناس. توفي إلى رحمة الله تعالى لست عشرة خلت من رجب سنة اثنتين وستين وثلاث مائة وألف. (انظر ترجمته في نزهة الخواطر 8/56-59)
ولما بلغ العلامة السيد سليمان الندوي ذروته في النبوغ والكمال في العلوم والآداب، وذيوع الصيت والشهرة في أنحاء الهند وأكناف العالم، وأصبح ملجأ العلماء والمثقفين، ومأوى الكتاب والباحثين، حملته نفسه الطامحة إلى أن يعنى بإصلاح باطنه، وتزكية نفسه، ويبلغ درجة الإحسان، فاختار أن يصحب المرشد الديني الشيخ أشرف علي التهانوي.
يقول العلامة السيد أبو الحسن علي الندوي: “أعتقد أنه لم يكن في العلماء المعاصرين وعلى الأقل في خريجي المدارس الدينية في الهند من عاش معركة العقل والقلب، والقديم والجديد، والشرق والغرب، والدين والأدب، أو الدين والفلسفة مثل ما عاشها أستاذنا العلامة الذي كان من خريجي دار العلوم لندوة العلماء، ومؤلف “سيرة النبي” صلى الله عليه وسلم، وسياسيا خبيرا، وأديبا بصيرا، تجول في أوربا، وكان قد سقى شجرة العلم بنبعه الفياض، واستظل بظلها الظليل سنين طوالا، وتناول موضوع التاريخ، وتحدث عن فلسفة مد العلم وجزره، وتطوره وانحطاطه، ولكن قلبه السليم وروحه الوثابة كانت تشهد (وإن كان تلاميذه والمعجبون بعلمه وكتاباته لا يقرون بأنه كان في حاجة إلى مزيد جديد) بأنه لم ينهل بعد من نميره الصافي الفياض، وكانت مؤلفاته وخاصة “محاضرات مدراس” و”سيرة النبي” و”سيرة عائشة” قد أذكت في قلوب آلاف من الناس شعلة الإيمان، فذاقوا حلاوته، ولكن همته البعيدة وعزمه وطموحه كان يحثه على البحث عن تلك المنزلة التي عبر عنها الحديث الشريف بالإحسان، والقرآن الكريم بالتزكية.
وكما أنه وجد مرشدًا وموجهًا مثل العلامة شبلي النعماني في طريق العلم والأدب، والبحث والتحقيق، فطواها بنجاح وتوفيق، كذلك كان يبحث عن مرب حكيم وموجه بصير، يبصره بغوائل النفس ومواضع الضعف في طبقة العلماء والمنشغلين بالعلم والتأليف، ويسهل له الوصول إلى مرتبة الإحسان والتزكية، وإن قصته ومشاعره الداخلية في ذلك كانت – إلى حد كبير – كالتي نشاهدها في حياة الإمام حجة الإسلام الغزالي، فإنه لما بلغ ذروة الفضل والكمال والشهرة العلمية بدا له ما كان يشتغل به من اجتهاد علمي وفكري كسراب، وخرج من بغداد في البحث عن معين العلم الحقيقي واليقين والمعرفة، وعاد موفقا قد نهل وعل”. (شخصيات وكتب ص 75-76).
ساقه التوفيق والمناسبة العلمية إلى مولانا أشرف علي التانوي، وبايعه في رجب سنة سبع وخمسين وثلاث مائة وألف، وأذعن له بالثقة والاعتماد والتفويض والانقياد، ونال عند شيخه الزلفى في أقل مدة، فأجازه، واستخلفه لعشر خلون من شوال سنة إحدى وستين وثلاث مائة وألف.
وما أحسن ما قيده السيد سلمان الندوي في هذا المقال عن والده أنه كتب إلى شيخه أشرف علي التانوي: “لا أقلد المتأخرين في الفقه، ولست من أهل الحديث بالمعنى الذي تعارف عليه الناس، أحترم الأئمة رحمهم الله تعالى من صميم قلبي، ولا أرى من الحق مخالفتهم جميعًا”.
فكتب إليه التانوي: “لقد زادني إعرابك الحر عن مذهبك حبا لك، وذلك من سببين: أحدهما لما كشف لي عن صدقك وإخلاصك، والثاني لصفاء هذا المذهب ونقائه، هذا هو مذهب أهل الحق جميعًا”.
لقد أعجبني هذا المقال، فبارك الله في السيد سلمان الندوي وجزاه خيرا وزاده بوالده برا.
الغداء:
استرحت اليوم قبل الظهر قليلا، وتغدينا جميعا على طبق خاص من ميكسيكو، فيه خبز ولحم مفروم وسلطة وخس وأنواع من الصلصة، وجبن، فتناولنا هذا النوع الجديد من الطعام مستمتعين به، وقد شهدنا تأثير ميكسيكو بحكم قربها من كاليفورنيا، في الطعام والشراب وأشياء أخرى فيها.
ثم صلينا الظهر، وشرفنا الأخ فرحان الزبيري لتوديعنا، فتحدثنا قيلا، وتناولنا آئيس كريم معا، راضيا بهؤلاء الرفقة، ولهم أخلاق امتزجت بالمكرمات امتزاج الروح بالبدن، وحان وقت المغادرة، فخرجنا ووودعنا أهل البيت شاكرين لهم على عنايتهم بنا وحسن خدمتهم لنا، وألحوا علينا أن نعود إليهم قريبا، زادنا الله تحابا وتصافيا، وتوادا وتراحما.
المغادرة:
وخرجنا إلى مطار لوس انجلوس في الساعة الثانية، مارين في طريقنا بتلال وجبال ووسط حقول خضراء ومشاهد جميلة رائعة، وقد يشد انتباهنا مبنى بديع، أو مخترع حديث، أو كائن غريب، ووصلنا إلى المطار خلال ساعة، ولم تأخذ الإجراءات زمنا طويلا على عكس ما كنا نتوقع، ومشينا إلى بوابة رحلتنا، والمكان مزدحم ازدحاما كبيرا برجال ونساء وأطفال وشيوخ من جنسيات مختلفة وأعراق متعددة، مكبين على هواتفهم، وممعنين في همومهم، ومتشاغلا بعضهم عن بعض، لا يجمع بينهم إلا السفر، وما أشقى الناس وهم غرباء في بني جلدتهم وبين ذويهم وعشائرهم.
تحدثت قليلا مع بنتي سمية، ثم بدأت أنا والأخ عمر رنجون والا نتجول ونتحدث حتى انضم إلينا الأخ عمر خان، وجرت أحاديثنا حول موضوعات علمية وتعليمية وتربوية، وكلا الأخوين معني بالدراسة في جدية ونهم شديد للعلم مع فهم جيد وذكاء، فهما في حديثهما مغرمان بالاستفادة، بعيدان عن فضول الكلام، وخفيفان لا يستثقلان، غير قائلين ما يفسد الذهن، ولا مزريين بالفهم والتحصيل، وأراني أعجب بالمحصلين، وأنفر من المتعالمين المتنازعين معنى من مبين الفرقان، والمستشكلين فقه جلي الحديث مما اتفق عليه الشيخان، قلوبهم مريضة، وأرواحهم دنسة، وعقولهم مشحونة ريبا ونفاقا، أعاذنا الله منهم، وشرح صدورنا للإيمان والإسلام.
وركبنا في الساعة الخامسة الطائرة المتجهة إلى مينيسوتا، وأخذت الرحلة أربع ساعات تقريبا، وهبطنا في سانت باول عاصمة مينيسوت في الساعة الحادية عشرة ليلا، وانضم بها إلينا أبو الفرحان زوج سمية قادما من أوربا.
مينيسوتا ولاية في وسط غرب الولايات المتحدة، ولاحتوائها على عدد كبير من البحيرات عُرفت بأرض العشرة آلاف بحيرة، ولقبها الرسمي هو “نجم الشمال”، ومستوى المعيشة فيها من بين أعلى المعدلات في الولايات المتحدة، وهي من بين أفضل أقطارها ثقافة تعليماً، وأرقاها ثراءاً ومالا.
وصلنا إلى الفندق، وهو على بعد خمس دقائق من المطار، في الساعة الحادية عشرة والنصف تقريبا، وصلينا المغرب والعشاء جمعا، واستأذنت الإخوة، واتجهت إلى غرفتي وأخذت مضجعي، ذاكرا لربي حامدا له وشاكرا حتى غلبتني عيناي.