بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
(يوم الجمعة 15 شوال 1439هـ الموافق لـ 29 يونيو 2018هـ)
مقدمة صحيح مسلم:
ومما شرحت للطلاب اليوم مسألة الحديث المعنعن وشرط اتصاله، قال مسلم في المقدمة: “وقد تكلم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتسقيمها بقول لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحا لكان رأيا متينا ومذهبا صحيحا.
إذ الإعراض عن القول المطرح أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيها للجهال عليه، غير أنا لما تخوفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الأمور وإسراعهم إلى اعتقاد خطإ المخطئين والأقوال الساقطة عند العلماء رأينا الكشف عن فساد قوله ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد أجدى على الأنام وأحمد للعاقبة إن شاء الله.
وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله والإخبار عن سوء رويته أن كل إسناد لحديث فيه فلان عن فلان وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به غير أنه لا نعلم له منه سماعا ولم نجد في شىء من الروايات أنهما التقيا قط أو تشافها بحديث – أن الحجة لا تقوم عنده بكل خبر جاء هذا المجيء حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا من دهرهما مرة فصاعدا أو تشافها بالحديث بينهما، أو يرد خبر فيه بيان اجتماعهما وتلاقيهما مرة من دهرهما فما فوقها.
فإن لم يكن عنده علم ذلك ولم تأت رواية صحيحة تخبر أن هذا الراوي عن صاحبه قد لقيه مرة وسمع منه شيئا – لم يكن في نقله الخبر عمن روى عنه ذلك والأمر كما وصفنا حجة وكان الخبر عنده موقوفا حتى يرد عليه سماعه منه لشىء من الحديث، قل أو كثر في رواية مثل ما ورد”.
قلت: قول مسلم: “بعض منتحلي الحديث”، أي بعض الدخلاء في علم الحديث المدعين زورا نسبتهم إليه، لا نعلم أسماء هؤلاء الدخلاء، وليس هناك كبير حاجة للاطلاع عليهم، لأن قول هؤلاء مخترع مخالف لإجماع المحدثين، حتى جاء القاضي عياض فادعى في شرحه لصحيح مسلم نقيض الإجماع الذي قرره مسلم، وقال: والقول الذي رده مسلم هو الذي عليه أئمة هذا العلم علي بن المديني والبخاري وغيرهما.انتهى. وتبعه في ذلك كل من تأخر عنه من الشراح والمؤلفين في أصول الحديث كالإمام النوي، والحافظ ابن حجر العسقلاني ومن بعدهما إلى يومنا هذا.
وقلت: هذا باب مهم من مقدمة مسلم عقده للرد على قول مخترع حول مسألة الحديث المعنعن، فالمذهب المجمع عليه بين المحدثين حتى عصر الإمام مسلم رحمه الله تعالى أن الحديث المعنعن محمول على الاتصال بثلاثة شروط:
1- أن يكون المعنعن والمعنعن عنه متعاصرين،
2- وأن لا يكون دليل بين على عدم الأخذ والسماع،
3- وأن لا يكون المعنعن مدلسا. ثم نشأ بعض من ادعى أن الحديث المعنعن لا تقوم به الحجة حتى يثبت اللقاء والسماع بين المعنعن والمعنعن عنه. فنهض مسلم رحمه الله تعالى للرد عليه لأنه قول مستحدث مخترع، ورده أتم رد ودحضه أبلغ دحض.
ولا شك أن ما ذهب إليه هو المذهب الصحيح الذي عليه الإمام البخاري وعلي بن المديني وغيرهما، وقد شرحت الأمر في ذلك شرحا بالغا في مقدمة شرحي للكتاب، فلله الحمد والشكر.
مجلس خاص مع طلاب المعهد:
وكان لي مجلس خاص مع طلاب المعهد في الساعة الحادية عشرة والنصف إلى الساعة الواحدة، أجبت فيه عن أسئلتهم واستفساراتهم، وشجعتهم على التحصيل والاكتساب، والسعي والاجتهاد، وأن يعملوا النظر والفكر في كل ما يدرسونه، ويتجنبوا التقليد، فإنه من أضر شيء بطالب العلم، والقرآن والسنة يأمران بالنظر ويرشدان إليه، وأوصيتهم أن يطالعوا كتب المحققين المجتهدين من أمثال ابن عبد البر، وابن حزم، وابن تيمية، لتتكون لديهم ملكة البحث والتمحيص، قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل “المحلى” لابن حزم، وكتاب “المغني” للشيخ موفق الدين، قال الذهبي: لقد صدق الشيخ عز الدين، وثالثهما “السنن الكبير” للبيهقي، ورابعهما “التمهيد” لابن عبد البر، فمن حصل هذه الدواوين وكان من أذكياء المفتين، وأدم المطالعة فيها، فهو العالم حقا. وقال الشاطبي في مقدمة الموافقات: “من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المحققين به على الكمال والتمام”..
وشرحت لهم أن ما أودعه الشيخان البخاري ومسلم صحيحيهما من علم كثير وفقه غزير وفكر دقيق ومغزى عميق ليس سرا من الأسرار ولا لغزا من الألغاز، بل هو علم يتطلب بحثا وتنقيبا، يمكننا أن نتعلمه كما يمكننا أن نعلِّمه، ومع ذلك فليس بسهل ميسور، ولا طائع منقاد، ومن واجبنا نحن أن نبذل قصارى جهودنا في الكشف عن زواياه وخبايا، وإنه لمن غباء الرجل وغفلته أن يدعي علما قبل أن يحققه بحثا وتنقيبا، فكم ممن ادعى أنه علم شرط البخاري ومسلم فبان للناس جهله، وكم ممن تجاسر على عيبهما فلم يعب إلا نفسه، ولم يسفِّه إلا رأيه.
وبينت لهم أن الجمع بين قولين وأكثر لا يصار إليه إلا إذا علم أن كل واحد منهما صواب، فإذًا لن يكون تعارض بينهما، ووجب علينا البحث عن سبيل التوفيق بينهما، ولكن إذا كان أحدهما صوابا والآخر خطأ وجب الترجيح من غير تشديد في الرأي، ومن ظن أن الأقوال المتعارضة كلها صواب فقد ادعى المحال والكذب، قال ابن حزم في مقدمة المحلى: “والحق من الأقوال في واحد منها، وسائرها خطأ، ومن ادعى أن الأقوال كلها حق، وأن كل مجتهد مصيب فقد قال قولا لم يأت به قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا معقول، وما كان هكذا فهو باطل، ويبطله أيضًا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، فنص عليه الصلاة والسلام أن المجتهد قد يخطئ.
وأعرب الطلاب عن شكرهم البالغ على تدريسي ومدى انتفاعهم به، وأنهم تعلموا أشياء كثيرة جدا، وسألوني أن أزورهم كل عام.
خطبة الجمعة:
وألقى فضيلة الأستاذ مزمل الصديقي الندوي خطبة الجمعة، وتلا سورة البلد، وحث على إعانة الفقراء والمساكين ومساعدة المحتاجين، وقرأ في الركعة الأولى سورة الليل وفي الركعة الثانية سورة الماعون، فأعجبتني خطبته، فإنه عني بتعليم الناس أساسيات هذا الدين، وعامة العلماء والخطباء لا يهمهم إلا أمور جزئية فرعية.
ثم تغدينا معا، وتحدثنا عن دار العلوم لندوة العلماء، ووضع المسلمين في الغرب، وانجر الحديث إلى كتابي عن شيخنا أبي الحسن الندوي الذي طبعته دار القلم في سلسلة أعلام المسلمين وترجمته بالإنكليزية، ثم كتابي (الوفاء في أسماء النساء).
رسالة الألفة بين المسلمين:
وأعطاني الشيخ فرحان الزبيري (رسالة الألفة بين المسلمين) لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق شيخنا عبد الفتاح أبي غدة، قال في المقدمة: “وقد وقفت في مجموعة الرسائل المنيرية على رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعنوان “خلاف الأمة في العبادات ومذهب اهل السنة والجماعة” فرأيتها رسالة نافعة جامعة، عالج فيها خير معالجة اختلاف العلماء في المذاهب والآراء، وقرر لزوم التوحد والائتلاف، وحذر من التفرق والتنازع عند الاختلاف، ذلك الموضوع الهام الذي نحن المسلمين في أشد الحاجة إليه”.
“فاستحسنت نشرها مفردة، ليعم نفعها، وتتضاعف فائدتها، ورأيت من المفيد أيضا أن أضيف إليها فصولا أخرى من مجموع الفتاوى للشيخ ابن تيمية نفسه، تتعلق بهذا الموضوع تعلقا تاما، وتوضحه إيضاحا كاملا”. (ص 19).
وقال الشيخ رحمه الله ملخصا لأهم أفكار الرسالة: “أن الخلاف في كل قليل وكثير لا يوجب الهجران أو المعاداة، وأن المسلم مأمور من جهة الشريعة بالحفاظ على الألفة والعصمة والموالاة، وأن مناط الولاء ومداره على الإيمان والإسلام، لا على غيرهما من الأسماء”. (ص 20).
قلت: ما أفسد ما بين المسلمين إلا تشويه هذا الولاء وتحريفه إلى انتماءات مستحدثة وأسماء مخترعة غير الإيمان والإسلام.
رسالة في الإمامة:
ويليها رسالة في الإمامة في جواز الاقتداء بالمخالف في الفروع، للإمام المجتهد أبي محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري، بتحقيق الشيخ رحمه الله أيضا، قال في المقدمة: “وقد أجاب الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى بهذه الرسالة عن سؤال رفعه إليه متفقه مالكي المذهب، سأل ابن حزم فيه عن حكم الاقتداء خلف الإمام المخالف في الفروع، وسرد السائل عدة مسائل من الفروع هي خلافية بين أئمة الفقه، وسأل عنها بخصوصها أنه إذا كان إمام المسلمين غير مالكي يرى فيها غير ما تقرر في مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، هل يجوز الصلاة خلف ذلك الإمام أم لا؟
فأجاب ابن حزم رحمه الله عن سؤاله ببيان علمي مسهب، وأفتاه بجواز الصلاة خلف الإمام المذكور، وخلف كل مخالف في الفروع”. (ص 119-120).
وما أحسن قول ابن حزم “وأما مالك رحمه الله فهو أحد العلماء والأئمة، اجتهد كاجتهاد الأئمة غيره منهم، وله نظراء من الأئمة ليس له عليهم تقدم في علم ولا فقه ولا سعة رواية ولا حفظ ولا ورع”. (ص 131).
رسالة في علوم القرآن:
وأعطاني الأخ الزبيري رسالة في علوم القرآن باللغة الإنكليزية، من تأليفه، فتصفحتها ووجدتها رسالة موجزة جامعة لأهم مباحث علوم القرآن من بيان معنى الوحي، وجمع القرآن، وبيان مكيه ومدنيه، وأسباب النزول، والنسخ، والأحرف السبعة، والتفسير، وأنواعه، وطريقة التعامل في القرآن.
وأراها رسالة نافعة كمقدمة لطالب علوم القرآن يترقى بها إلى دراسة المطولات والتعمق فيها.
خطاب في مسجد:
ألقيت اليوم كلمة في مسجد الأستاذ مزمل صديقي الندوي عن إسهام النساء في الحديث النبوي الشريف، استمع لها الرجال والنساء، ووجهوا إلي أسئلة عن جوانب مختلفة من الموضوع، واستمر البرنامج إلى صلاة العشاء.
ولقد أكرمني الأستاذ صديقي إكراما بالغا، وهو من نبلاء الرجال صاحب أخلاق عالية، رفيق سمح، وما أقل نبلاء الرجال الرفاق السمحاء عددا، وما أكثرهم قيمة وقدرا، وما أسماهم رتبة ومكانة، وإني لأراني أحبهم حبا صرفا لا مزاج له، وسائر حب الناس ممزوج، وأجد نفسي من أنفسهم بمنزلة هي المصافاة بين الماء والراح، اللهم اجعلني سمحًا رفيقا.