بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
(يوم الأربعاء 13 شوال 1439هـ الموافق لـ 27 يونيو 2018هـ)
صلى بنا الفجر الأخ عمر خان، ثم اشتغلت بالمطالعة والكتابة، وتحدثنا في الفطور عن وضع الأسر المسلمة في أمريكا، وتفشي حوادث الطلاق، وشيوع المشاكل العائلية، والعلاقات المضطربة بين أفراد البيت، وسوء سلوك الأهل والأولاد، وقلت: إن أس الأمر هو عدم تفهم معنى الزواج: الغرض الذي يجنيه والمسؤوليات والحقوق التي تستلزمه، والجهل ببناء الشخصية على الإيمان والإسلام، والتعامي عن مكارم الأخلاق والصبر ومعالي الأمور، ومما زاد الأمر تفاقما والطين بلة أن أعضاء المنزل بل والمجتمع رجالا ونساء في سباق دائم ورهان، وتكاثر مستمر وتنافس، وذلك وضع يؤدي إلى استغناء بعضهم عن بعض وطغيان وجور، مع أن الفطرة التي فطر الناس عليها أن يكونوا متعاونين على الخير والصلاح والبر والتقوى متعاطفين متعاضدين، ولا يتسابقوا أو يتنافسوا إلا في التعاون والتعاطف والتراحم، وإذا جاء السباق مجردا عن التعاون دمر البيوت تدميرا وحطم أسس الوشائج البشرية تحطيما، فوافقوا على تحليلي منوهين به، وأشادوا بأني وضعت أصبعي على موضع الداء.
درس مقدمة صحيح مسلم:
فتحت الدرس اليوم بشرح معنى السماع والقراءة والإجازة، ومباينة الشهادة الإجازة، وقيمة الإجازة ونشأة فكرتها في الحديث ثم تعديها إلى غيره من العلوم، وبينت لهم مواضع استعمال “حدثني” و”حدثنا”، و”أخبرني” و”أخبرنا”، ومن ذهب إلى الفرق بين السماع والقراءة، ومن لم يفرق بينهما.
وتحدثت عن مراسيل الصحابة، وقلت: تقبل مراسيل الصحابة محتجا بها في السنن والأحكام، ولا تقبل في السير والمغازي والتفسير، والفرق أن السنن والأحكام مستمرة متواصلة فلن يعملوا بها إلا إذا حققوها تحقيقا، وأن السير والمغازي والتفسير ليست من الأعمال، وإنما هي مجرد أخبار، قد تروى من دون بحث وتحقيق، قال الإمام أحمد: “ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي”، وقال الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: 13/345-346: “فالمقصود أن المنقولات التى يحتاج اليها فى الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره ومعلوم أن المنقول فى التفسير أكثره كالمنقول فى المغازى والملاحم
ولهذا قال الامام أحمد ثلاثة أمور ليس لها اسناد : التفسير والملاحم والمغازى ويروى ليس لها أصل أى اسناد ، لأن الغالب عليها المراسيل مثل ما يذكره عروة بن الزبير والشعبى والزهرى وموسى بن عقبة وابن اسحاق ومن بعدهم كيحيى بن سعيد الأموى والوليد بن مسلم و الواقدى ونحوهم فى المغازى فان أعلم الناس بالمغازى أهل المدينة ثم أهل الشام ثم أهل العراق فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبى رباح وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم من اصحاب ابن عباس كطاووس وأبى الشعثاء وسعيد بن جبير وأمثالهم وكذلك أهل الكوفة من اصحاب ابن مسعود ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم وعلماء أهل المدينة فى التفسير مثل زيد بن أسلم الذى أخذ عنه مالك التفسير وأخذه عنه أيضا ابنه عبدالرحمن وأخذه عن عبدالرحمن عبد الله بن وهب ، ثم تكلم عن المراسيل و حكمها” .
وضربت مثلا من قصة بحيرا الراهب، التي أخرجها أصحاب السير عن قُرَاد أبي نوح، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه، قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه محمد صلى الله عليه وسلم وأشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب نزلوا فخرج إليهم، وكان قبل ذلك لا يخرج إليهم، فجعل يتخلَّلهُم وهم يُحلُّون رِحالهم، حتى جاء فأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سيّد العالمين، هذا رسول ربِّ العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أشياخ قريش: وما عِلْمُك بهذا؟ قال: إنّكم حين أشرفتم من العَقَبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرَّ ساجدًا، ولا يسجدون إلا لنبيّ، وإني لأعرِفُه بخاتم النُّبوَّة، أسفل غرضوف كَتفه مثل التُّفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به كان صلى الله عليه وسلم في رِعْيَة الإبل، قال: فأرسلوا إليه، فأقبل وعليه غَمامة تُظِلُّه، فلما دنا من القوم وجدَهم قد سبقوه – يعني إلى فَيْء شجرةٍ – فلما جلس مال فَيْء الشجرة عليه، فقال: انظروا فَيْء الشجرة مالَ عليه. قال: فبينا هو قائمٌ عليه يُناشِدُهم أنْ لا يذهبوا به إلى الروم، فإنّ الروم لو رأوْه عرفُوه بصفته فقتلوه، فالتفت فإذا بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم الراهب، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أنّ هذا النبيَّ خارجٌ في هذا الشهر، فلم يبق طريقٌ إلا قد بُعِث إليه ناس، وإنّا أخبرنا فبعُِثنْا إلى طريقك هذا، فقال لهم: هل خلَفتم خلفَكم أحدًا هو خير منكم؟ قالوا: لا. إنما أخبرنا خبره بطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيهَ، هل يستطيع أحدٌ من الناّس ردَّه؟ قالوا: لا. قال: فتابَعُوه وأقاموا معه، قال: فأتاهم فقال: أنشدكُم بالله أيكم وَليِهُّ؟ قال أبو طالب: أنا، فلم يزل يناشده حتى ردَّه أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا، وزوّده الراهب من الكَعْك والزَّيت.
فهذه القصة من مراسيل أبي موسى الأشعري، ولم يشهدها، وفيها كلام للناس طويل، قال الذهبي في تاريخ الإسلام: تفرّد به قُرَاد، واسمه عبد الرحمن بن غزوان، ثقة، احتجّ به البخاري والنسائي، ورواه الناس عن قُرَاد، وحسَّنه الترمذي. وهو حديث مُنكر جدًا، وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ونصف، وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن وُلِد بعد، وأيضًا، فإذا كان عليه غمامة تُظلُّه كيف يُتصوَّر أن يميل فَيْء الشجرة؟ لأن ظلّ الغمامة يعدم فَيْء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَّر أبا طالب قطّ بقول الراهب، ولا تذاكَرَتْهُ قريش، ولا حَكَته أولئك الأشياخ، مع توفُّر هَممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك، فلو وقع لاشتهر بينهم أيَّما اشتهار، ولَبَقي عنده صلى الله عليه وسلم حسٌّ من النُّبوة، ولما أنكر مجيءَ الوحي إليه، أولا بغار حِراء وأتى خديجة خائفًا على عقله، ولمَا ذهب إلى شواهق الجبال ليرميَ نفسَه صلى الله عليه وسلم. وأيضًا فلو أثَّر هذا الخوفُ في أبي طالب وردَّه، كيف كانت تطيبُ نفسُه أن يمكِّنه من السفر إلى الشام تاجرًا لخديجة؟
غداء مع سلمان الندوي ومزمل صديقي:
وحضرت غداء قرب مسجد الدكتور مزمل حسين صديقي الندوي، رئيس الاتحاد الإسلامي في أمريكا الشمالية، من زملاء شيخنا نذر الحفيظ الندوي، وقد كنت في زيارتي السابقة ألقيت كلمة في المسجد، وأعرب بعض الحضور عن انطباعاتهم بأن آرائي وأفكاري تشبه آراء مزمل صديقي وأفكاره، قلت: لا غرو في ذلك، فإننا فرعا نبعة وغصنا دوحة، نجلتنا أبوة ونتقتنا أمومة، فلما رآني هذه المرة هش لي وانبسط، فتعانقنا متآلفين، وتحدث عن حضوره مؤتمر مدينة بتكل هذه السنة، وأثنى على بتكل والندويين فيها ونشاطاتهم، وعرج على مقابلته زميله نذر الحفيظ الندوي مستغربا من ترائيه شيخا كبير السن.
وكان الغداء قد نسقه الأستاذ خالد بيك في منزله إكراما لسعادة الأستاذ الدكتور السيد سلمان الندوي، والذي لقيته الآن بعد فترة، فسر بي جدا ورحب بي ترحيبا كبيرا محتفيا بشأني ومكرما إياي تكريما، وتجاذبنا أطراف الحديث في وجد وشوق عن القضايا الإسلامية العالمية، ومشاكل المسلمين في الهند والغرب، ودور المدارس الدينية في الظروف الراهنة، والتي قد أغفلت مقتضيات العصر ومتطلبات الزمان، فتخلفت عن الركب منكمشة متعثرة، وفقدت تأثيرها في المجتمع غريبة عنه، وعن انزواء العلماء عن القيادة، بل وعدم أهليتهم لها، فلفظتهم الأمة ومجتهم مجا، فوا أسفاه ووا حسرتاه!.
وجرى الحديث عن إلحاح بعض المدارس في شبه القارة على مذهبها الخاص ومنهجها وذوقها غير سامحة لعامة المسلمين إلا بالالتزام بتلك الجزئيات الفرعية التي اتخذتها لها شعارا ودثارا، وكأن الجنة ليس لها إلا باب واحد تسيطر عليه وتراقبه، قلت: كتب بعض شباب الندوة: مالكم تلحون على أن ندخل الجنة من الباب الذي استحدثتموه ساكنين إليه مطمئنين به، دعوا الناس يدخلوا من أبوابها المختلفة فتعيشوا في سلام ويعيشوا في سلام، فأعجب سلمان الندوي والحضور بهذه النكتة متقهقهين.
وأهدى إلي الأستاذ خالد بيك كتابه باللغة الإنكليزية عن الموسيقى في الإسلام، والذي قدم له الدكتور السيد سلمان الندوي، والدكتور محمود أحمد غازي.
درس لي في مسجد:
وألقيت اليوم درسًا في مسجد قريب بعد المغرب حول التعليم والتربية، وسألني بعضهم عن علامات الساعة هل اقترب وقتها؟ فقلت: ليس الغرض من هذه الأخبار أن نتنبأ بالمستقبل، ولقد أخطأ من تجرأ على ذلك، وإنما الغرض منها أن لا نفقد الرجاء ولا يغلبنا اليأس والقنوط، ونعرف أن الإسلام سيغلب، فنجمع هممنا ونجاهد في سبيل إصلاح نفوسنا ومجتمعاتنا.
وسألتني سيدة عن نساء الحديث هل كن يواجهن مشاكل في حياتهن العائلية؟ قلت: كانت حياتهن في بيوتهن كحياتنا، مشاكل عائلية وطلاق واضطراب وقلق، ولكنهن عرفن أن يواجهنها بالصبر والصلاة، فلم أجد إحداهن تشكو إلى الناس أو إلى المجتمع، وسألني أحدهم ما هو الأصل في تربية الأولاد؟ قلت: الأصل أن نعنى بإدخال السرور عليهم وإسعادهم، ثم بإصلاحهم وإعدادهم للآخرة.