بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
(يوم الثلاثاء 12 شوال 1439هـ الموافق لـ 26 يونيو 2018هـ)
شرح الهرري لصحيح مسلم:
استيقظت في الساعة الخامسة على العادة وصلى بنا الأخ رنجون والا الفجر في قراءة محققة، ثم اشتغلت بالمطالعة، وكان الشيخ فرحان الزبيري قد أعطاني بالأمس (شرح صحيح مسلم المسمَّى الكوكب الوهَّاج والرَّوض البَهَّاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج)، جمع وتأليف محمد الأمين بن عبد الله الأُرمي العلوي الهَرَري الشافعي نزيل مكة المكرمة والمجاور بها، مراجعة لجنة من العلماء برئاسة البرفسور هاشم محمد علي مهدي المستشار برابطة العالم الإسلامي – مكة المكرمة، الناشر : دار المنهاج وطوق النجاة، عدد المجلدات : 26 مجلد.
يعتبر هذا الشرح أوسع شروح صحيح مسلم المطبوعة، يقول البرفسور هاشم محمد علي مهدي في تقديمه للكتاب: “ومن توفيق الله تعالى بروز هذا الشرح الموسَّع له الذي يعدُّ موسوعةفي العلوم الحديثية، إذ هو لعالم جليل، وجهبذ ليس له بديل، بقر بطون الكتب سالكًا في ذلك طريق السلف الأولين، فقطع مفاوز الطلب حتى وصل إلى بحار العلم، وغاص في لججها، واستخرج دررها، وحَسْبُ من يقرأ في هذا الكتاب الثمين أن يرشف من هذا البحر رشفات، فتزيده ظمأ لإكمال هذا السفر الجليل؛ فإن مؤلفه -متع الله به- جمع فيه ما استطاع من خلاصة كتب السابقين، وزينه بدرر وفرائد تدل على مكانته العلمية الرفيعة، فجاء كحسناء تتيه بقدها المياد، ولا تأبه بأعين الحساد، وصار جديرًا بما أسماه به مؤلفه: “الكوكب الوهاج والروض البهاج”؛ فإنه كوكب يتوهج في سماء تلك الشروح، وروض يبهج قلوب طلبة هذا العلم الشريف؛ لما فيه من ورود وأزهار يفوح شذاها على من ينتشق ذلك الأريج”.
ويقول الشارح: “ولمَّا كان هذا الكتابُ (أي صحيح مسلم) بهذه الصِّفَةِ، ومُصَنِّفُهُ بهذه الحالةِ .. خَطَرَ لي أنْ أُعَلِّقَ عليهِ شرحًا يَفُكُّ مَبَانِيَه، ويَحُلُّ معانيَه، ويُفسِّرُ غَرائبَه، ويُبيِّنُ أغراضَه متنًا وسَنَدًا، ويشرحُ متابعتَه تابعًا ومتبوعًا، لفظًا ونحوًا ومعنىً، ويُبَيِّنُ موضعَ التراجمِ من الأحاديث، ويذكرُ التراجمَ للأحاديث التي لم يُتَرْجَمْ لها، وحكمةَ ما يُدْخِلُه في خلال الأسانيد مِن نحو: (يعني)، ومراجعَ الضمائر والإِشارات في نحو قوله: (مِثْلَه) و (نحوه) و (معناه)، وفي قوله: (بهذا الإِسناد) مما قد زَلَّتْ فيه أقدامُ كثيرٍ من ضُعفاءِ الطلَبة، وغَيرِ ذلك من الفوائد التي انْفَرَدَ بها عن سائرِ شُروح السابقين مما يطولُ ذِكْرُه، ويَصْعُبُ تَعْدَادُهُ ونشرُه -فيا كوكبًا وهَّاجًا للسالكين في مَسْرَاه، وروضا بهَّاجًا للنازلِينَ في مَغْنَاهُ- فَشَمَّرْتُ ذَيلَ العَزْمِ عن ساقِ الحَزْمِ، وأتيتُ بُيوتَ التصنيفِ من أبوابِها، وقُمتُ في جامعِ جوامعِ التأليفِ بَينَ أَئِمتِهِ بمحرابها، وأطلقتُ لسانَ القلمِ في ساحَاتِ الحِكَم بعبارةٍ صريحةٍ واضحةٍ، وإِشارةٍ قريبةٍ لائحة، لَخَّصْتُها من كلامِ الكُبراء الذين رَقَتْ في معارج علومِ هذا الشأن أفكارُهم، ومن إِشاراتِ الأَلِبَّاءِ الذين أنفقوا على اقتناصِ شواردِه أَعمَارَهُم، وبَذَلْتُ الجهدَ في تَفَهُّمِ أقاويلِ الفُهماءِ المُشَارِ إِليهم بالبَنَانِ، ومُمَارَسَةِ الدواوين المُؤَلَّفةِ في هذا الشأن”.
كنت قد سمعت بهذا الشرح من قبل، ولما تقلبت صفحاته وجدته يعنى بالكشف عن معاني الكلمات، والخوض في مسائل النحو والصرف، واللغة والإعراب، والكلام على فقه المتون، وسرد التراجم والنقول الكثيرة، على طريقة المعلمين في المدارس، المستشكلين ما ليس بمشكل، والشارحين لما هو غني عن البيان والإيضاح، ولم أر فيه بحثا جديدا أو تحقيقا، ولا نفسا حديثيا، ومع ذلك فهو شرح مفيد نافع للطلاب إن شاء الله تعالى.
أهمية اللغة العربية للعلماء:
أفطرت في الساعة السابعة والنصف مع الأخ رنجون والا، وأوصيته أن يواصل بعد تخرجه من معهد السلام، عنايته باللغة العربية والدراسات الإسلامية، ولعل أفضل وسيلة إلى ذلك أن يبدأ تدريس اللغة العربية وعلوم القرآن والحديث والفقه لبعض الطلاب، فوقع اقتراحي منه موقع الرضا، عاضدا نصيحتي بالحديث عن أهمية اللغة العربية للطلاب والعلماء، وقلت له: إن من مآخذي على المدارس الإسلامية في بريطانيا أنها تستخف باللغة مهملة لها إهمالا، فيتخرج الطلاب منها ضعفاء في اللسان العربي المبين، على النطق والكتابة غير قادرين، بل وفوجئت بعامتهم عاجزين عن قراءة النصوص وإعرابها وتفهمها واستيعابها، وهو عيب كبير، وخلل مزرٍ، فإنهم يصرفون خمس سنوات أو أكثر في تلك المدارس، ثم يخرجون منها والعي لهم لازم، واللكن عليهم حاكم.
قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: “اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”. وقال: “لا بُدَّ في تفسيرِ القرآن والحديث من أن يُعرَف ما يدلُّ على مرادِ الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يُفهَم كلامُه؟ فمعرفةُ العربيةِ التي خُوطبنا بها ممَّا يُعين على أن نفقه مرادَ اللهِ ورسولِه بكلامِه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظِ على المعاني؛ فإنَّ عامَّة ضلالِ أهل البدع كان بهذا السبب، فإنَّهم صاروا يحملون كلامَ اللهِ ورسولِه على ما يَدَّعون أنَّه دالٌّ عليه، ولا يكون الأمر كذلك”. وقال مالك: “لا أُوتَى برجلٍ غير عالم بلغةِ العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً”.
تدريس مقدمة صحيح مسلم:
بدأت تدريس المقدمة في الساعة الثامنة، وحرضت الطلاب على أن يقوموا بإعمال النظر والفكر، ويروضوا أنفسهم على التعقل والتفهم، ويتدربوا على استيعاب المعلومات وتحليلها ونقدها، ولا يتكاسلوا عن البحث والتحقيق، والفحص والتدقيق، فالعقل أشرف ما أنعم الله به على الإنسان، ميَّزه به عن الدواب والأنعام؛ وهو منشأ الفكر الذي يتحقق به كمال بني آدم وفضلهم على الخلق، وبالعقل يقدر على الإدراك والتمييز والتمحيص، ويتوسل إلى إدراك فَحْوَى الوحي، وتفقه كلام رب العالمين، قال ابن الجوزي: “فإن أعظم النعم على الإنسان العقل، لأنه الآلة في معرفة الإله سبحانه والسبب الذي يتوصل به إلى تصديق الرسل”.
كما تطلع الشمس على الكون بأنوارها فتبهره بعطاء ينبوع الضوء المسمى النهار، يتوقد العقل فيفجر في الإنسان ينبوع النور المسمى الفكر والبصيرة والهدى والإيمان، وليس النهار إلا يقظة الحياة وحركتها ونشاطها تحقق أعمالها وأشغالها، وليس العقل إلا يقظة النفس البشرية تحقق فضائلها وسموها وكمالها.
ولكن يجب أن يعرف الناس حد العقل كما يجب عليهم أن يعلموا حدود الحواس، فلا يرفعوه فوق قدره ولا يضعوه دون منزلته، قال ابن حزم في إحكام الأحكام 1/30-31: وهما طرفان أحدهما أفرط فخرج عن حكم العقل، والثاني قصر فخرج عن حكم العقل، ومن ادعى في العقل ما ليس فيه كمن أخرج منه ما فيه، ولا فرق، ولا نعلم فرقة أبعد من طريق العقل من هاتين الفرقتين معاً، إحداهما: التي تبطل حجج العقل جملة. والثانية: التي تستدرك بعقولها على خالقها عز وجل أشياء لم يحكم فيها ربهم بزعمهم، فثقفوها هم ورتبوها رتباً أوجبوا أن لا محيد لربهم تعالى عنها، وأنه لا تجري أفعاله عز وجل إلا تحت قوانينها.
لقد افترى كلا الفريقين على الله عز وجل إفكاً عظيماً، وأتوا بما تقشعر منه جلود أهل العقول، وقد بيّنا أن حقيقة العقل إنما هي تمييز الأشياء المدركة بالحواس وبالفهم ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي عليه فقط من إيجاب حدوث العالم، وأن الخالق واحد لم يزل، وصحة نبوة من قامت الدلائل على نبوته، ووجوب طاعة من توعدنا بالنار على معصيته، والعمل بما صححه العقل من ذلك كله، وسائر ما هو في العالم موجود، مما عدا الشرائع، وأن يوقف على كيفيات كل ذلك فقط.
فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراماً أو حلالاً، أو يكون التيس حراماً أو حلالاً، أو أن تكون صلاة الظهر أربعاً وصلاة المغرب ثلاثاً أو أن يمسح على الرأس في الوضوء دون العنق، أو أن يحدث المرء من أسفله فيغسل أعلاه، أو أن يتزوج أربعاً ولا يتزوج خمساً، أو أن يقتل من زنى وهو محصن وإن عفي عنه زوج المرأة وأبوها ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمداً إذا عفا عنه أولياء المقتول، أو أن يكون الإنسان ذا عينين دون أن يكون ذا ثلاثة أعين أو أربع، أو أن تخص صورة الإنسان بالتمييز دون صورة الفرس، أو أن تكون الكواكب المتحيرة سبعاً دون أن تكون تسعاً، وكذلك سائر رتب العالم كلها.
فهذا ما لا مجال للعقل فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه، وإنما في العقل الفهم عن الله تعالى لأوامره، ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على تعديه، والإقرار بأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ولو شاء أن يحرم ما أحل أو يحل ما حرم لكان ذلك له تعالى، ولو فعله لكان فرضاً علينا الانقياد لكل ذلك ولا مزيد.
مأدبة العشاء:
أرى نفسي تألف فرحان الزبيري إلفا، وتشتاق إليه صبوة وحنينا، المعلي إلى المجد طرفه، والشاغل من النبل ظرفه، وقد نسق اليوم مأدبة عشاء فخمة إكراما لي دعا إليها عددا كبيرا من العلماء والطلاب، وصلت إلى منزله مع صاحبنا عمر رنجون والا بعد الساعة السابعة، فكأنما هدينا إلى طويل الباع واسع الدار مرحب بالطارق الممتار، غير مزورٍّ عن الزوَّار، وتلقانا بمحيا باسم وأريحية حاتم، وقابلنا بوجه بشره يشف، ونضرته ترف، وما إن لبثنا إلا ونظمنا ناد، وامتلأت الدار بضيوف أسياد، إلى المكارم سابقين، وللمعالي قاصدين، متهادين تحية المحبين، مستبشرين فرحين، ومبسوطين غير منقبضين.
وتحدثت إليهم طويلا عن القرآن الكريم، وأصول الفقه الإسلامي، وعلوم النبي صلى الله عليه وسلم، وصلينا المغرب بعد الثامنة والربع، ثم حضرنا مأدبة كأنها نار على علم تضرم، وتخبر عن جود وكرم، والموائد مشحونة بأطعمة الولائم ومحمية من العائب واللائم، فائحة بأطيب الروائح والنكهات، تجلو برونقها العيون والأبصار، وتستأسر بألوانها القلوب والألباب، فعاجلتنا نظراتنا بهواها، كأن لم تكن نفوسنا تريد سواها، ورفضنا ما قيل في البطنة ورأينا الإمعان فيها من الفطنة، وكل واحد يشول بلسانه، وينشر ما في صوانه.
وخلال الطعام سئلت عن بعض آرائي ووجهات أنظاري، والحمد لله على أن وفقني في الكشف عن الإشكالات، فاستجاده من حضر واستحلاه، وأثنوا على مقالاتي وكتاباتي، وأشادوا بجهودي في نشر العلم وإفاداتي، داعين لي بالتوفيق الرحماني، وسائلين لي زيادة في العلم والفقه، والعمل والصلاح.
واستخبرتني سيدة طبيبة عن أسئلة تتعلق بمهنتها الطبية فأجبت عنها، ثم صلينا العشاء، ولما سلمت على والد الشيخ فرحان الزبيري أستأذنه في الخروج ذكر لي ان أصله من مارهره في الهند، فقلت: إنكم من بلد الأشراف، فمرحبا بالكريم حسبه الشهير نسبه، مطلب الناشد ومعلم الراشد، وودعت أكارم الإخوان وأصدق الخلان، مسلما عليهم تسليما، وميمِّما إلى مأواي تيميما.
التعريف بمؤلفات الفراهي وفكره:
وتحدثت إلى الضيوف العلماء قبل العشاء وهم محتفون بي عن ارتباط الأحاديث النبوية الشريفة بالقرآن الكريم، وسألني بعضهم عن تعاملي مع القرآن الكريم، وما هي كتب التفسير التي أستشيرها، وجر الكلام إلى الإمام حميد الدين الفراهي (1280-1349هـ) فقمت بتعريف به وبمؤلفاته: دلائل النظام، ومفردات القرآن، وإمعان في أقسام القرآن، والتكميل في أصول التأويل، وأساليب القرآن، وحجج القرآن، وحكمة القرآن، والرسوخ في معرفة الناسخ والمنسوخ، ومقدمة تفسيره نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان، وتفسير سورة البقرة، وتفسير السور المختلفة، وتعليقاته في التفسير.
وشرحت لهم نظريته عن النظام، يقول في دلائل النظام: “قد صنف بعض العلماء في تناسب الآيات والسور، أما الكلام في نظام القرآن فلم أطلع عليه، والفرق بينهما أن التناسب إنما هو جزء من النظام.. فإن التناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئا واحدا مستقلًا بنفسه، وطالِب التناسب ربما يقنع بمناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتصالها؛ فإن الآية التالية ربما تكون متصلة بالتي قبلها على بُعد منها، ولولا ذلك لما عجز الأذكياء عن إدراك التناسب”.
ويقول: “إن المراد بالنظام أن تكون السورة كلا واحدا، ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة واللاحقة، أو بالتي قبلها أو بعدها على بُعد منها، فكما أن الآيات ربما تكون معترضة، فكذلك ربما تكون السورة معترضة، وعلى هذا الأصل نرى القرآن كله كلاما واحدا، ذا مناسبة وترتيب في أجزائه، من الأول إلى الآخر؛ فتبين مما تقدم أن النظام شيء زائد على المناسبة وترتيب الأجزاء”.
ويقول: “إن نظام القرآن ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو المنهاج الصحيح لتدبر القرآن، وهو المرجِّح عند تضارب الأقوال، وهو المعيِّن عند تعدد الاحتمالات، وهو الإقليد الذي تُفتح به كنوز القرآن”.