بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
(يوم الأحد 10 شوال 1439هـ الموافق لـ 24 يونيو 2018هـ)
زارني الليلة الماضية الأخوان الكريمان فهد الرحماني وأحمد الرحماني ابنا فضيلة الشيخ ولي الرحماني، وابن عمهما الأخ الكريم عبد السميع هدى، وهو من تلاميذي المجدين، يدرس علي منذ خمس سنوات، وتحدثوا عن بعض النشاطات التعليمية التي يقومون بها رفعا للمستوى المعيشي للمسلمين في الهند، ومكثنا نتحدث إلى ما بعد الساعة الحادية عشرة، ثم استأذنوا للرجوع، وأويت إلى مضجعي.
استيقظت صباحا حوالي الساعة الرابعة، وصلى بنا أخونا عمر خان المقرئ الفجر قرأ فيها فواتح سورة آل عمران قراءة جميلة محققة، أثرت معانيها في نفسي تأثيرا، ثم تناولت كوبا من الشاي واشتغلت بالكتابة.
أفطرنا بعد الساعة التاسعة، وتحدثنا عن شروح الكتب الحديثية، وعن بعض تراجمها باللغة الإنكليزية، وأفادنا عمر خان بعملية ترجمة فتح الباري باللغة الإنكليزية في المملكة المتحدة وأنها ترجمة دقيقة شاملة للمسائل الإسنادية والمباحث الفنية أيضًا، وتحدث عمر رنجون والا عن ترجمة فيض الباري شرح صحيح البخاري من إفادات العلامة أنور شاه الكشميري إلى الإنكليزية المتواجدة على الشبكة والمنسوبة إلى العلامة شبير أحمد العثماني، فاستغربت هذه النسبة، ولا أدري كيف أقحم اسم العلامة العثماني في هذا الشرح.
وانجر الحديث إلى مسألة تدليس السفيانين، وتدليس الأعمش وقتادة، فقلت: إن الأعمش وقتادة معروفان رغم إمامتهما وجلالتهما بكثرة التدليس، فلا يقبل الشيخان البخاري ومسلم ما روياه معنعنا إلا إذا تحقق سماعهما له، ولا يدلس ابن عيينة، كما هو معلوم، إلا عن الثقات، ولم ير الحفاظ بتدليسه بأسا ولا عنوا بالتفتيش عنه، والثوري وإن كان يدلس عن بعض الضعفاء، إلا أنه قليل التدليس جدا، ولم يخف على الأئمة ما دلسه، فلم يردوا حديثه المعنعن إلا إذا قام الدليل على تدليسه في خبر بعينه.
وسألني عمر رنجون والا ما حمل الثوري على التدليس وهو من هو في إمامته وجلالة شأنه؟ قلت: قد ينشط المحدث فيسند حديثه إسنادا تاما، وقد لا ينشط فلا يأتي بالإسناد على وجهه، وقد يكون تركيزه على المتن، فيسهو عن الإسناد، ومثل هذا السهو عيب في حديث الرجل إذا كثر، ولكن إذا قل ذلك كما حصل للثوري فهو محتمل، والحمد لله على أن البخاري ومسلما لم يدخلا شيئا من حديثه الضعيف في كتابيهما.
وسألني عمر خان عن شرح أحمد محمد شاكر لسنن الترمذي، فقلت: إنه لم يتمه، ولو أتمه لأغنانا عن كثير من الشروح، والعلامة أحمد محمد شاكر من المحدثين المتميزين بالبحث والتحقيق والفحص والتنقيب، ومما يؤخذ عليه في شرحه هو تساهله في التصحيح والتحسين، وقلما يحالفه الصواب إذا خالف الترمذي في المسائل الإسنادية، ومع ذلك فهو أحسن حالا من العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني، رحمهما الله رحمة واسعة.
وسألتني زوجة عمر رنجون والا عن وضع الناس الأحاديث في فضل حفظ القرآن، قلت: كثر ذلك جدا، ولعل الدافع للواضعين هو ترغيب الناس في القرآن، ومنهم من وضع الأحاديث حسبة، وهو جهل بدين الله تعالى، وأفضت في إنكار مذهب من يقبل الحديث الضعيف في الفضائل، وأن ذلك استغله كثير من المتساهلين، فرووا في الفضائل الشواذ والمناكير بل والواهيات والموضوعات، وحسبنا في فضائل الأعمال وغيرها كتاب الله تعالى وصحيح حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وخرجنا بعد الظهر إلى معهد العلم، وقدمت فيه محاضرة عن إسهام النساء في الحديث النبوي الشريف من الساعة الثانية إلى الساعة السادسة، حضرها نحو مائة رجل وامرأة، واستمع إليها عدد كبير عبر الإنترنت من مدن الولايات المتحدة المختلفة وخارجها.
تحدثت عن حمل النساء الحديث النبوي الشريف وروايتهن له مع إتقان وضبط في التلقي والأداء، وفقه لمضامينه وتطبيق لها في حياتهن ومجتمعاتهن، وأنهن بلغن في ذلك مبلغًا يبعث على الدهشة والإعجاب، وكفى بالنساء فخرًا أن كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أعلام الأئمة والفقهاء على مر القرون والأعصار أخذوا عنهن الحديث والعلم، ومنهم من أكثر جدا في الأخذ عن النساء، فقد جاء في ترجمة مسلم بن إبراهيم الإمام الحافظ الثقة مسند البصرة أبي عمرو الأزدي الفراهيدي المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين أنه روى عن سبعين امرأة، وروي مثل ذلك عن هشام بن عبد الملك الإمام الحافظ الناقد شيخ الإسلام أبي الوليد الطيالسي المتوفى سنة سبع وعشرين ومئتين أنه روى عن سبعين امرأة، وروى الحافظ ابن عساكر المتوفى سنة إحدى وسبعين وخمس مائة عن بضع وثمانين امرأة، وعمل معجما خاصا بهن، وترجم عصريه ورفيقه أبو سعد السمعاني المتوفى سنة اثنتين وستين وخمس مائة لتسع وستين امرأة، وروى الحافظ أبو طاهر السلفي المتوفى سنة ست وسبعين وخمس مائة عن عشرات من النساء.
وقد بلغ من مكانة بعض هؤلاء النساء في العلم أن أزواجهن تلمذوا عليهن ورووا عنهن ورجعوا إليهن في حل المسائل العلمية العويصة والدقائق الفقهية، فهذه فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوّام من كبار المحدثات والفقيهات في عصر التابعين، وقد روت علمًا جمًّا وأحاديث كثيرة، خاصة عن جدتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وروى عن فاطمة أئمة من أمثال محمد بن إسحاق صاحب المغازي، وأكثر ما روي عنها من طريق زوجها هشام بن عروة التابعي الجليل وشيخ كثير من الأئمة: أبي حنيفة، ومالك، وشعبة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة وجماعة.
وفاطمة بنت محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي مؤلف (التحفة)، وهي زوجة الإمام أبي بكر بن مسعود الكاساني صاحب (البدائع والصنائع في ترتيب الشرائع)، العالمة الفاضلة، قال ابن العديم في ترجمتها: حكى والدي أنها كانت تنقل المذهب نقلاً جيدًا، وكان زوجها الكاساني ربما يهم في الفتوى فترده إلى الصواب وتعرفه وجه الخطأ، فيرجع إلى قولها.
وروت النساء كذلك الأنواع المختلفة من المصنفات الحديثية من الجوامع والسنن والمسانيد والمعاجم والأربعينات، والأجزاء والمسلسلات، ومن طريف الأخبار في رواية المسلسلات ما أخبرنا شيخنا محمد بن علوي المالكي أن الشيخ محمد ياسين الفاداني سمع الكثير من المسلسلات من شيخته المسندة أمة الله بنت عبد الغني الدهلوية المتوفاة في المدينة المنورة سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وألف بأعمالها القولية والفعلية، فذكر لي موقفا طريفا أنها كانت معمرة في السن وروت لهم الحديث المسلسل بالقبض على اللحية وفيه كل راو يروي الحديث وهو قابض على لحيته فقالت: حدثنا أبي وهو قابض على لحيته ولما حدثت هي به فقبضت على موضع اللحية، حتى يتم التسلسل.
وكانت النساء يعقدن مجالسهن للتحديث والرواية في منازلهن ومنازل غيرهن، وعامة المساجد، والمدارس، والأمكنة الأخرى من الرباطات والبساتين حيث تيسر لهن ذلك، وما رأينا أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من الفقهاء والمحدثين رأوا في ذلك بأسًا، أو حاولوا الحجر عليهن أو التضييق عليهن، وكانت مجالسهن يحضرها الفقهاء والعلماء الكبار، فهذه أم محمد سارة بنت عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الملك بن عثمان بن عبد اللّه بن سعد بن مفلح بن هبة اللّه بن عمرو المقدسية، قال الحافظ البرزالي في ترجمتها: قرأت عليها بطريق الحجاز في اللجون من عمل الكرك، وفي الحجر (بالحرم الشريف).
وهذه الشيخة المُسندة الصالحة الكاتبة أم الخير وأم محمد فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر البعلبكي المعروف بالبطائحي المتوفاة سنة إحدى عشرة وسبع مائة، قال الذهبي في ترجمتها: وسمعت صحيح البخاري من ابن الزبيدي، وصحيح مسلم من أبي الثناء محمود بن الحصيري شيخ الحنفية، وهي آخر من روى عنه وفاة، وسمعت من أبي القاسم بن رواحة، وطال عمرها وروت الكثير، قد درست الحديث في المسجد النبوي الشريف، قال ابن رشيد السبتي: قدمتْ في ركب الشام زائرة وحاجّة، لقيتها بمسجد المصطفى صلى اللّه عليه وسلم، وقرئ عليها، وهي مستندة إلى جانب رواق الروضة الكريمة المحمدية على ساكنها السلام تجاه رأس المصطفى الكريم.
وكذلك درّست النساء في المسجد الأقصى، منهن التابعية الجليلة أم الدرداء رحمها الله تعالى، والشيخة الصالحة المعمرة أم محمد هدية بنت علي بن عسكر البغدادي من نساء القرن الثامن الهجري، وقرأ الحافظ العلائي (الأجزاء العشرة المخرجة من حديث الرئيس أبي عبد الله القاسم بن الفضل بن أحمد بن أحمد بن محمود الثقفي) على أم محمد زينب ابنة أحمد بن عمر بن شكر بالمسجد الأقصى.
وتحدثت أخيرا عن الشيخة العالمة الفقيهة، الزاهدة، القانتة سيّدة نساء زمانها، الواعظة، أم زينب فاطمة بنت عبّاس البغدادية المتوفاة سنة أربع عشرة وسبع مائة: انتفع بها خلق من النساء، وتابوا، وكانت وافرة العلم، قانعةً باليسير، حريصة على النفع والتذكير، ذات إخلاص وخشية، وأمر بالمعروف، انصلح بها نساء دمشق، ثم نساء مصر، وكان لها قبول زايد، ووقع في النفوس، وقال الذهبي: انصلح بها نساء دمشق، وبصدقها في تذكيرها، وقناعتها باليسير، وقد زرتها، وأعجبني سمتها وتخشعها، وكانت تدري الفقه جيدا، وكان الشيخ تقي الدين يتعجب من علمها وذكائها، ويثني عليها كثيرًا، ثم تحولت بعد السبع مائة إلى مصر، وبعد صيتها، وانتفع بها نساء القاهرة، وقال ابن كثير: وهي التي ختمت نساء كثيرًا القرآن، منهنّ أم زوجتي عائشة بنت صديق، زوجة الشيخ جمال الدين المزي، وهي التي أقرأت ابنتها زوجتي أمة الرحيم زينب، رحمهنّ اللّه وأكرمهنّ برحمته وجنته آمين، وقال ابن كثير: كانت من العالمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم على الأحمدية في مواخاتهم النساء والمردان، وتنكر أحوالهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لايقدر عليه الرجال، وقال ابن كثير: وقد سمعت الشيخ تقي الدين ابن تيمية يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرًا من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها.
ووجهت إلي أسئلة كثيرة جدا أجبت عنها، ورأيت الناس معجبين بالمحاضرة إعجابا، فالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.