Reading Time: < 1 minute

بسم الله الرحمن الرحيم

وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي

بقلم: محمد أكرم الندوي
أوكسفورد

قالوا: ما معنى دعوة سليمان عليه السلام: “وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي” (سورة ص 35).

قلت: ذهب عامة أهل التفسير في معناها إلى أنها تضمنت أمرين: أن يُعطى ملكا عظيما ملكا زائدا على الممالك، وأن لا يُعطى غيرُه مثله في عظمته وسعته.

قالوا: فهل توافقهم على هذا التفسير؟

قلت: لا،

قالوا: ما أنكرت منه؟

قلت: أنكرتُ ثلاثةً،

قالوا: ما هي؟

قلت:

الأول: فيه إقدام سليمان عليه السلام على سؤال الدنيا وطلبها، وقد ذمها الله تعالى مبغضا لها، ومحتقرا إياها، ومشنعا عليها تشنيعا؟ وقال في كتابه: “بل تؤثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى، إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى”، فالأنبياء يؤثرون الآخرة على الدنيا، لأن الآخرة هي الباقية، والدنيا هي الفانية، وما من فتى فيها إلا سيبلى جديدُه، والروحات والدلجات تُبيده، وهل يرغب ذو لب حازم في الفاني عن الباقي؟ وهل يزهد مؤمن في دار الخلود، ويسكن إلى دار سريع زوالها؟ وهل يسهو نبي من أنبياء الله عن نعيم مقيم بجوار رب العالمين، ويرتجي عيشا موصولة مقاصده ومسالكه بالممات والهلاك؟

الثاني: فيه تكاثر في الدنيا، ونوع استكبار، ومنافسة في أموال عافية ومتاع له اندثار، وانخداع بالأماني واغترار، وأنبياء الله أبعد الناس من التكاثر وشيء من تيه أو ترفع، وغير مخدوعين بالأماني الباطلة والأحلام، وما الدنيا عندهم بدار فكاهة أو دار لذات، وقد قال تعالى في كتابه في الكفار والفساق: “ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر”، فالكفار والفساق يتكاثرون في الدنيا، ويتنافسون فيها، وعباد الله الصالحون يتنافسون في نعيم الآخرة، قال تعالى: “كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون، إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك وفي ذٰلك فليتنافس المتنافسون”. (سورة النازعات 18-26).

الثالث: استعمال “ينبغي” في القرآن مخالف لذلك المعنى، فقد قال تعالى: “وما علمناه الشعر وما ينبغي له” (سور يس 69)، أي: وما ينبغي له أن يكون شاعرا، فالشعر دون مرتبته وهو يزري به إزراء، وتفسيرهم لدعوة سليمان يقتضي أن يكون هذا الملك فوق مرتبة من بعده، لا يمكنهم أن ينالوها أو يطمحوا إليها طموحا، ويستحسن أن تحمل كلمات كتاب الله تعالى على معان تتسق بعضها مع بعض متوافقة متناسقة، لا متخالفة متشاكسة.

قالوا: فما المعنى الذي اخترته؟

قلت: إن سليمان عليه السلام سُلب ملكه لذنب فرط منه وزلة، فتاب إلى ربه واستغفره واستعاذه أن يعطى ملكا لا يستحقه، وقال: “رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي”، أي لا تعطني ما أُسلبه، بل أعطني أدون شيء يزري بغيري، فسأل الله تعالى ملكا حقيرا تافها لا مطمع فيه لأحد.

قالوا: إن ما ذهبت إليه معنى سليم من المفسدتين الأخيرتين اللتين نقمتهما على التفسير الأول، أي فيه تواضع من سليمان عليه السلام دون استكبار أو ترفع، وفيه المعنى الصحيح لكلمة “ينبغي”، ولكنه لم يسلم من المفسدة الأولى، وهي طلب الدنيا،

قلت: لا، بل إن تفسيري سليم من تلك المفسدة أيضًا، فإن سليمان عليه السلام لم يطلب في هذه الآية الدنيا، فقد كان أبوه ملكا، وورثه إرثا، ولما سلبه لفلتة منه استغفر ربه وسأله أن ينقص من ملكه نقصانا لا يطمع فيه أحد، ومما يدله على زهده في الدنيا أنه قدم الاستغفار على سؤاله، دلالة على إيثاره ما يبقى على ما يفنى.

قالوا: أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة – أو كلمة نحوها – ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي . وأخرج مسلم عن أبي الدرداء قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول: “أعوذ بالله منك”. ثم قال: ألعنك بلعنة الله – ثلاثا – وبسط يده كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك ؟ قال : ” إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت : أعوذ بالله منك – ثلاث مرات – ثم قلت : ألعنك بلعنة الله التامة . فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة”.

قالوا: أو ليس الحديثان يؤيدان ما ذهب إليه أهل المعنى الأول؟

قلت: لا. فإن سليمان عليه السلام تواضع لربه فرفعه، سأله ملكا صغيرا تافها، فأسرع إليه سيب ربه عطاء غير ممنون، ووهبه ملكا واسعا عظيما، حيث تملك الجن كما تملك البشر، وسخر الله له الريح، والحديثان يشيران إلى ثمرة دعائه وإلى ما آل إليه أمره من الملك الكبير الممتدة أطرافه المتينة أسبابه.

قالوا: ما تقول في حديث “الأنبياء كلهم يدخلون الجنة قبل سليمان بن داود بأربعين عاما”؟

قلت: رواه الطبراني وغيره بسند واه، وهو حديث منكر لا أصل له، وإنما منشؤ ذلك التأويل الأول، وأما التأويل الذي ذهبت إليه فلا يدع مجالا لأدنى ريب في أن سليمان عليه السلام يحشر مع غيره من الأنبياء، وحاشا أن يظن تأخر دخوله الجنة بعدهم بأربعين خريفا، وقد شهد بفضل سليمان عليه السلام منطوق الكتاب ومفهومه، قال تعالى عنه: “ووهبنا لداوود سليمان، نعم العبد إنه أواب” (سورة ص 30)، وقال: “وإن له عندنا لزلفىٰ وحسن مآب” (سورة ص 40). ولا شك أن أوبة سليمان وتزلفه إلى ربه أغلى من الدنيا وما فيها، وما أخسر من باع آخرته بدنياه، وما أغبن من آثر الزوال على الخلود، وما أسكر الدنيا لأهلها وأضرها بعقول ذويها، وسليمان عليه السلام فممن آتاه الله عقلا سليما، وحكما، وفهما، وعلما، زاكية صنائعه طاهرة أنعمه صافية دخيلته ومشغولا قلبه بربه إليه مخبتا منيبا، فسلام الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.