بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
(يوم الثلاثاء 19 شوال 1439هـ الموافق لـ 3 يوليو 2018هـ)
استيقظت الساعة الرابعة والنصف، وخرجت مع أبي زيد لصلاة الفجر في الجامع القريب من بيته، وهو جامع كبير فيه مدرسة تعنى بالتعليم النظامي والإسلامي وتحفيظ القرآن الكريم، وأغلبية أمناء المسجد من أهل الدعوة والتبليغ، مغالون في بعض المظاهر والعادات والتقاليد، يصرفون النساء عن الصلاة في المسجد والدراسة فيه ويثبطونهن تثبيطا، فلا يحضر المسجد إلا عدد قليل جدا منهن، ومتشددون على غيرهم من أهل السنة والجماعة ممن يختلف عنهم في الرأي والمذهب، فنفر منهم الإخوة العرب منفصلين عنهم، وفتحوا مسجدا آخر متسامحين فيه مع عامة المسلمين والمسلمات، يركزون في تعليم هذا الدين على الوعي والفهم أكثر من حفظ الكلمات، فبارك الله فيهم وكلل سعيهم بالنجاح. رجعنا من المسجد، وصنع لي أبو زيد الشأي، فتناولته وجلست للمطالعة والكتابة، ولم أر أن أنام بعد الفجر، فإنه وقت فيه بركة، وظلت مشتغلا حتى الساعة التاسعة والنصف، ثم اغتسلت، واستأذنتْ علي بنتي وزوجها للتشاور في بعض أمور معهد السلام، وخلال ذلك تناولت فنجانا من الشأي، وتحدثت معهما، ثم نزلت لأتجول خارج المنزل.
تجول:
ولحقني أبو زيد، وتجول معي يطلعني على المنطقة حول بيته، وفي جانبيه مقبرتان للنصارى، وخلف بيته مساحة من الأرض واسعة مشتركة بينه وبين جيرانه يستعملونها للنزهة، وفيها ملاعب، ومسبحة، وقد ينصبون خيمة للضيوف يجتمعون فيها على الغداء أو العشاء أو الفطور، وضرب أبو زيد اليوم خيمة لمأدبة الفطور دعا إليها عددا من العلماء والطلاب إكراما لي.
مأدبة الفطور:
اجتمعنا في الخيمة جالسين على الكراسي، فلما حضر الضيوف كلهم بدأنا تناول الفطور، وتحاورنا حول أمور مختلفة مناقشين لها نقاشا، منها وضع الخطب يوم الجمعة، فمن الناس من لا يزال يلح على عدم صحة الخطبة إلا بالعربية، يشوهونها تشويها، ويقدمون عليها خطبا بالأردية والبنغالية والإنكليزية، فلا يجد الحضور وقتا لأداء السنة أو تلاوة القرآن الكريم، ويقرأون خطب الجمعة من كتب ألفت قبل قرن من الزمان، ضعيفة المحتوى والمضمون، لا ذكر فيها ولا تذكير، ولا معنى فيها ولا مغزى، وقد تنتهي الخطب بالدعاء للخليفة عبد الحميد الثاني: السلطان بن السلطان والخاقان بن الخاقان خلد الله ملكه وسلطنته.
وتطرقنا إلى الحديث عن اختلافات الجالية المسلمة في أمريكا ومشاقاتها ومنازعاتها، والتي تحول المساجد أحيانا إلى ساحات الوغى والحرب، وقد يسمون المساجد بأسماء تدل على الطائفية والانتماءات المذهبية.
وتحدثنا عن حقيقة السحر، والعين، ومس الجن، وشرحت في كل ذلك آرائي، وحققت أن نسبة السحر إلى الأنبياء عليهم السلام نيل من مقامهم الشريف واعتداء على حرمة النبوة والرسالة، وقررت أن العين حق وأبرزت معناه، وشددت أن مس الجن لا يعني إلا الوسوسة، (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم) سورة إبراهيم 22.، وأما أن يدخل الجني في الإنس ويتملكه ويتسلط عليه ويسلبه إرادته، فهذا لم يحصل أبدا ولا دليل عليه، أعاذنا الله من الخرافات والأباطيل وشعوذة المشعوذين واختلاق الرقاة المحترفين، ولعل الرقاة هم الذين استحوذت عليهم الشياطين كما قال في آكل الربا “لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس”، ومن يشك في تغلب الشيطان على من يستغل مرضى المسلمين والمسلمات ويبتز أموالهم ويأكلها بالباطل، ويعتدي على أعراضهم وينتهك حرماتهم، غير راقب لمؤمن ولا مؤمنة إلا ولا ذمة.
صلاة الظهر:
وخرجنا بعد الساعة الواحدة إلى المسجد القريب، وصلينا فيه الظهر جماعة، والتقينا بعد الصلاة مصلين تعرفوا إلينا، ومنهم مثقفون متدينون، وليست لهم لحى، فتأسفت على بعض المتشددين يسيؤون إليهم، ويقاسون في تعاملهم معهم، مع أن الواجب أن يكون الرفق والرحمة من شعار المسلمين في تعاملهم، وقد قال تعالى: “رحماء بينهم”، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، ولقد يؤلمني جدا سوء خلق المصلين ومجافاتهم لخلق الله تعالى.
القيلولة:
وأخذني التعب، فاستلقيت للقيلولة، أخفف من الإرهاق والكلل، وانتبهت بعد ساعة، وبدأت المطالعة والكتابة، وأحضرت لي سمية فنجانا من الشأي، فتناولته معززا قوتي ونشاطي.
العشاء:
ثم تعشيت مع أبي زيد وعثمان خان في الساعة السادسة عشاء خفيفا، تحدثنا فيه عن جو نيو جرسي، إذ كان الجو في الصباح حارا، ثم غشيتنا سحابة بعد الظهر، ونزل الغيث، فاعتدل الجو، واستمتعنا به، وأخبرنا أبو زيد أن هنا أربعة فصول في السنة: الصيف، ثم الخريف، ثم الشتاء، ثم الربيع. والخريف أبهى ما يكون هنا، فقد تتحول أوراق الأشجار كلها إلى ألوان مختلفة قبل أن تتساقط.
درس المقدمة:
شرحت لهم اليوم أهم النقاط التي تساعدهم في فهم كتاب الله تعالى، والتي تناولها ابن تيمية بالبيان في المقدمة وفي غيرها من كتبه:
الفطرة: قال الله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. (سورة الروم الآية 30)، وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله”.
قال ابن تيمية: كل مولود يولد على الفطرة ليس المراد به أنه حين ولدته أمه أن يكون عارفا بالله موحدا له بحيث يعقل ذلك، فإن الله يقول: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا)، ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر، ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضي ذلك، وتستوجبه بحسبها. فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة، حصل من معرفتها بربها، ومحبتها له، ما يناسب ذلك كما أنه ولد على أنه يحب جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، وحينئذ فحصول موجب الفطرة، سواء توقف على سبب، وذلك السبب موجود من خارج، أو لم يتوقف، على التقديرين يحصل المقصود.
ولكن قد يتفق لبعضها فوات الشرط أو وجود مانع، فلا يحصل مقصود الفطرة.
وقال: إن لم تكن الفطرة مقتضية للإسلام صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس، فوجب أن تذكر كما ذكر ذلك. وهذا كما أن الفطرة لو لم تقتض الأكل عند الجوع – مع القدرة عليه – لم يوجد الأكل إلا بسبب منفصل. والنبي صلى الله عليه وسلم شبه اللبن بالفطرة، لما عرض عليه الخمر واللبن واختار اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو أخذت الخمر لغوت أمتك. والطفل مفطور على أن يختار شرب اللبن بنفسه، فإذا تمكن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة، فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض، وهو مولود على أن يرتضع، فكذلك هو مولود على أن يعرف الله، والمعرفة ضرورية له لا محالة إذا لم يوجد معارض. وأيضاً فإن حب النفس وخضوعها لله وإخلاص الدين له، مع لكبر والشرك والنفور، إما أن يكون نسبتها إلى الفطرة سواء، أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني. فإن كانا سواء، لزم انتفاء المدح كما تقدم، ولم يكن فرق بين دعائها إلى الكفر ودعائها إلى الإيمان، ويكون تمجيسها كتحنيفها، وقد عرف بطلان هذا.
وإن كان فيها مقتض لهذا فإما أن يكون المقتضى مسلتزماً لمقتضاة عند عدم المعارض، وإما أن يكون متوقفاً على شخص خارج عنها. فإن كان الأول، ثبت أن ذلك من لوازمها، وأنه مفطورة عليه، لا تفقد إلا إذا فسدت الفطرة. وإن قيل: إنه متوقف على شخص، فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية.
وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا. وإذا قيل: هي إلىالحنيفية أميل، كان كما يقال: هي إلى النصرانية أميل.
فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله، والذل له، وإخلاص الدين له، وأنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض، كما فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه.
وقال العلامة الفراهي: قد وجدنا النفس في فطرتها مدركة ذائقة، وهكذا نرى الحواس، فإنها ليس لها محض الإخبار، بل لها لذة وألم، فالنفس بإدراكها تحكم بالوجود، وكون الشيء شيئا، وبذوقها تحكم بكون الشيء مرغوبا فيه أو مرغوبا عنه، وهذا الطرف هو أصل جميع أفعالها وأعمالها. (حجج القرآن 76)
وقال الفراهي: اعلم أن القرآن صرح كثيرا بأن دين الله هو الفطرة، والإنسان مسؤول حسبما أودع فطرته، فيناديه من جانب فطرته ويخاطبه من مركز وجوده، فإن الفطرة أصل علومه وإرادته، فلا علم حتى البديهيات إلا وهي أصله وأمه، فبها يوقن ويحكم، وهي حاكمة عليه”. (الحجج 79).
الحواس: وهي مصادر علوم الإنسان، قال تعالى: (أفلم نجعل له عينين ولسانا وشفتين). قال الفراهي: الإنسان مفطور للرقي إلى أعلى المنازل، وهو قربة الرب تعالى، وذلك بما ركب فيه السمع والبصر، وجعل الفؤاد حاكما فيه (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون (سورة النحل 78)، أي حين أخرجكم لا تعلمون شيئا، ولكن جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لتكسبوا بها علما ومعرفة، وغاية ذلك أن تشكروا. (حجج القرآن 74).
العقل: وللعقل أربع وظائف: 1- يحفظ المعلومات المكتسبة من مصادرها، 2- وينسِّق بينها ويوفِّق توفيقا، 3- ثم يطوِّرها وينمِّيها، 4- ويعجم عُودها ويختبرها اختبارا، فمثلا إذا استفاد الإنسان أن “أ” تساوي “ب” وأن “ب” تساوي “ج” حفظ العقل كلتا القضيتين، ونسّق بينهما تنسيقًا يطورهما إلى قضية ثالثة، وهي أن “أ” تساوي “ج”، ولو أن امرءًا جعل القضية الثالثة: “أ” تساوي “د” بيّن العقل خطأها، وركزت على أن العقل ليس مصدرا للعلم خلافًا للفلاسفة ومن تبعهم من المتكلمين الذين كلّفوه ما لا طاقة له به، وهذا هو أسُّ ضلالهم وجهلهم ومنبع تيههم وسفههم، فالعقل لا يُوَلِّد علما ولا يُنْتِج معرفة، فمثلاً إذا كان الإنسان لم ير التاج محل ولم يسمع به، فإنه لا يهتدي إليه بعقله بل ولا يسنح له ولا يخطر بباله، وإذا وُضِع بين يديه طعام فإنه لن يجد إلى لذته بعقله سبيلا، وكذلك الروائح لا تُشمُّ والملموسات لا تُلمَس بالعقول، وما أعجز العقل وأعياه أن يُلاحق ما وراء الحواس أو يتوهمه توهما.
ثم بينت لهم الحاجة إلى النبوة، ومعنى الإرادة والعمل، قال الفراهي: وإذا كان الفكر والنظر من عمل النفس، ولا عمل إلا بإرادة، ولا إرادة إلا برغبة، ولا رغبة إلا بذوق، غمع أن العلم غير الذوق، ولا تترقى النفس في العلوم والمعارف أيضًا إلا من جانب الذوق والإرادة والفعل. (حجج القرآن 76).
وقال: العمل يعقب الإرادة، ولكن إنشاء الإرادة قد لا يكون سهلا، لأن الهوى والعقل يتنازعان، والهوى والوحي يتنازعان، فمن رحمة الله بعباده أن هداهم إلى الإيمان والتقوى، وذلك مما يساعده على إرادة الخير.
ولخصت لهم كذلك معنى كون القرآن كلام الله، ومعنى أسباب النزول، ومعنى القرائن التي تساعد في فهم الكلام، وتفسير ابن تيمية للمعنى المراد.
الدكتور حاتم الحاج:
وشرفنا بحضور الدرس الشيخ الدكتور حاتم محمد الحاج، فقابلته بعد الدرس وتحدثنا قليلا، وكان لي مجلس معه في منزل الأخ أبي زيد، تبادلنا فيه آراءنا حول قضايا فقهية مختلفة وشؤون إسلامية محلية وعالمية.
والشيخ أصله من الإسكندرية بمصر، ويقيم الآن في نيوجيرسي بالولايات المتحدة الأمريكية، حائز على الدكتوراه في الشريعة الإسلامية، تخصص فقه مقارن، جامعة الجنان بلبنان، من مؤلفاته: (أثر الحاجة في رفع الإثم عن بعض ما يعترض العاملين في القطاع الطبي)، و(أحكام تطبيب الأطفال)، و(أثر تطور المعارف الطبية على تغير الفتوى والقضاء)، يقول في مقدمته: “إن التداخل بين علمي الفقه والطب أمر يتفق عليه العارفون بهما، وذلك لأن موضوع علم الطب هو بدن الإنسان ونفسه، والبدن والنفس محل للتكاليف الشرعية، ولذلك كثر ذكر الفقهاء لمسائل من علم الطب وإحالتهم على الأطباء، بل وسؤالهم إياهم لتحقيق مناط الأحكام الشرعية”
“ولما كان علم الطب متغيرا، لزم أن تتغير الفتاوى والآراء الفقهية المبنية على المعارف الطبية، ولعل تغير الآراء الفقهية بتغير المعارف الطبية هو أوضح مثال على تغير تلك الآراء الفقهية – وليس الأحكام الشرعية – بتغير الزمان والمكان والحال” ص 5.
وقال: “ولقد أحببت أن أبذل جهدي في سد ثغرة في هذا الباب، فقررت أن أتتبع مسائل الفقه التي قد يؤثر تطور العلوم الطبية على الترجيح فيها، ولست أزعم الاستيعاب لكل تلك المسائل، ولكنني حاولت أن أتناول بعض القضايا الأهم في أبواب الفقه كافة، من عبادات وعادت ومعاملات وقضاء” ص 6.
وقال: “وفي الجملة فقد جمعت المسائل ذات التعلق بموضوع الكتاب، ثم عرضت آراء الفقهاء فيها وناقشتها ورجحت أسعدها حظا بالدليل، ثم بينت تغير المعارف الطبية بشأنها وأثر ذلك على قبول أو رد بعض الاجتهادات الفقهية أو الترجيح بينها”. ص 11.