يا غريبا في أقرانه وأهل زمانه

Reading Time: 6 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

(في ذكرى شيخنا الجليل العلامة الشريف محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله تعالى)

قال علي بن المديني: لا يقاس الرجل إلا بأقرانه، وأهل زمانه، فلقد قلت مرة: سعيد أعلم من حماد بن زيد، فبلغ ذلك يحيى بن سعيد، فشق ذلك عليه، لئلا يقاس الرجل بمن هو أرفع منه، لا يقول: سفيان أعلم من الشعبي، وأي شيء كان عند الشعبي مما عند سفيان؟! وقيل لعلي بن المديني: إن إنسانا قال: إن مالكا أفقه من الزهري. فقال علي: أنا لا أقيس مالكا إلى الزهري، و لا أقيس الزهري إلى سعيد بن المسيب، كل قوم وزمانهم. (الملخص من مسند الحافظ يعقوب بن شيبة السدوسي (مخطوط) [ص/38/ب]).

ليوافق يحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني من وافقهما، وليخالفهما من خالفهما، وأما أنا فوافقتهما وأعجبت بقولهما أيما إعجاب، ورأيت ذلك الكلام من سديد فقههما وعمق فهمهما، ومن مثل يحيى وعلي؟ ولقد رأيت شيخنا وأخانا العالم الصالح أحمد عاشور علق عليه تعليقا فاستثنى منه ما استثنى، قال: “هذا فيه إنصاف للكاتب المعاصر وأنه يقارن بحسب زمانه ومعاصريه وإن كان دون من تقدمه، مع أنه قد يسبق متأخر متقدماً”، وليس ثَم كلية إلا وقد استثني منها، وأجدني اليوم أحرص ما أكون على أن أذهب مذهب أحمد، وكأن دافعا يدفعني إلى أن أستثني من تلك الكلية شيخنا محمد واضح رشيد الندوي، وأعتذر إلى يحيى وعلي الاعتذار كله، فما أشد بغضي أن أنقص من قولهما أو أزيد.

أبا جعفر! أنى لنا أن نقيسك بأقرانك وأهل زمانك؟ وهل تشاكلهم ويشاكلونك؟ وهل تضارعهم ويضارعونك؟ كنت عنهم غريبا وهم عنك غرباء، مباينين لمذهبك ومفارقين لطريقك، وهل القرن بالزمان والمكان فحسب؟ أليس قرين الرجل من شاركه في صفاته، وشابهه في أخلاقه؟ أليس المتواضعون إخوانا، والزهاد أخلاء، والصالحون والمتقون نظراء وأكفاء؟ أو ليسوا قرناء وإن تباعدت بهم الأزمنة والأعصار، وتفرقت بهم الأمكنة والأمصار، يا شيخنا! ويا غريبا في أقرانه ومعاصريه! لقد كنت قرينا لمن مضى، ونأى عنك بقاعا ودارا، وزمنا وأعصارا، فائقا غيرك بخصائص الأخلاق والآداب، ومحاسن الشيم والخلال، فجاد بك ربنا علينا نعمة منه وفضلا، رضينا لك مناقب زُهْرا، وشمائل مثلى، يملأ حسنك لحظات عين الناظر المتعجب، وينوه بمحامدك الفضلى الأقاصي والأقارب.

روينا عن ليث عن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام، وعن أبي بكر بن عياش قال: سألت الأعمش كم رأيت أكثر ما رأيت عند إبراهيم؟ قال: أربعة خمسة، وعن إبراهيم بن بشار، قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: من طلب العلم لله، كان الخمول أحب إليه من التطاول.

ألم تدانِ أبا العالية وإبراهيم فكرهت أن يزدحم عليك الناس؟ ألم تُفضِل الخمول بعيدا عن التطاول كل البعد؟ ألم تطلق الدنيا لأقوام عليها متعادين، وغير منافس في جمع مال حطام؟.
وعن عبد الله بن مرزوق قال: استشرت سفيان الثوري، فقلت: أين تراني أنزل؟ قال: بمر الظهران حيث لا يعرفك إنسان، وعن سفيان الثوري قال: ما رأيت للإنسان خيراً من أن يدخل جحرًا، يعني ينأى بنفسه عن الفتن، وكان يقول: “لولا أن أُستذَل لسكنت بين قوم لا يعرفونني، وعبد الرحمن بن مهدي، عن طالوت: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: ما صدق الله عبد أحب الشهرة، وجاء عن عبد القادر الجيلاني أنه قال: “أتمنى أن أكون في الصحارى والبراري كما كنت في الأول، لا أرى الخلق ولا يروني”.

أو ليس الانزواء عن الخلق لك بخلق؟ وما أقربك إلى سفيان في الإقبال على شأنك والانشغال عن كل ما لا يعنيك، وكل من عرفك شهد بأنك لم تحب الشهرة ولا أسبابها، سائرا لفظك بكل صواب، وأنت في بيتك أليفُ قعود.

وعن يحيى بن أبي كثير قال: رأس التواضع ثلاث أن ترضى بالدون من شرف المجلس وأن تبدأ من لقيته بالسلام وأن تكره من المدحة والسمعة والرياء بالبر، وعن صالح المرِّيِّ، قال: خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التَّواضُع، فقال لهما الحسن: وهل تدرون ما التَّواضُع؟ التَّواضُع: أن تخرج مِن منزلك فلا تلق مسلمًا إلَّا رأيت له عليك فضلًا.

كذلك كنتَ راضيا بالدون من المحافل والمجامع، تجلس بين الطلاب وعامة الناس خاشعا خاضعا، غير زاعم عليهم علما ولا فضلا، ولا مدَّع شرفا أونبلا، وكارها للثناء والمدح أشد كراهية، ومعرضا عن المزكين والمطرين إعراضا، وواضعا نفسك في مؤخرة الركب، ومقدما لغيرك ومؤثرا له إيثارا.

وعن سفيان الثوري: “أنفع ثيابك لك أهونها عليك”، من رأى ثيابك ألفاها لا تساوي دراهم معدودة وكان فيها من الزاهدين، وصادف فيها نفسا أسرعت علوا في المكرمات، ووجد مسافة النجم دون مقتربيها، ما أبعدك عن أندادك وضربائك في المجد والسؤدد، ما أنت إلا كالبدر أفرطت في العلو وضوؤك يستنير به السارون والمهتدون.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: “تعلموا الصمت كما تعلمون الكلام، فإنَّ الصمت حلم عظيم، وكن إلى أن تسمع أحرص منك إلى أن تتكلم، ولا تتكلم في شيء لا يعنيك، ولا تكن مضحاكًا من غير عجب، ولا مشَّاءً إلى غير أرب”. وعن إبراهيم النخعي قال: “كانوا يجلسون فيتذاكرون، فأطولهم سكوتاً: أفضلهم في أنفسهم”، وعن عبد الله بن السندي، قال: “جاء رجل إلى الثوري فقال: السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته، كيف أنت وكيف حالك؟ فقال سفيان: عافانا الله وإياك، لسنا أصحاب تطويل”.

والسكوت شيخنا عبارة عن سلوكك، والصمت مشتق من سمتك، يخوض ناس في الكلام ليوجزوا، وللصمت في أكثر الأحيان أوجز، ومن كان عن حسن الصمت عاجزا فهو عن الإبلاغ في القول أعجز، وما أشدك تنائيا عن التطويل وتجنبا للإسهاب، وكأنك كنت تزن كلماتك قبل أن تنطق بها، فصنت نفسك عن الفضول والإطناب.

وعن أحمد بن إبراهيم بن بشار قال: سألت إبراهيم بن أدهم عن العبادة، فقال: رأس العبادة: التفكر والصمت، إلا من ذكر الله، وكذلك كنت دائم التفكير فتأتينا بعلم عميق وفقه دقيق، وكنت مطيلا للصمت، فإذا تكلمت نطقت بحكمة وأبنت عن فضل، عن إسماعيل بن أمية قال: “كان عطاء يطيل الصمت، فإذا تكلم: يخيل إلينا أنه يؤيد”، وكذلك كنتَ حكيما رشيدا، وشتان بين الحكمة والسفه، وبين الضلال والرشد.

روي عن أبي حنيفة والبخاري وغيرهما من السلف أنهم لم يغتابوا أحدا. وقال بعض الحكماء: “عاب رجلٌ رجلًا عند بعض أهل العلم فقال له: قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيب الناس؛ لأنَّ الطالب للعيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها”، وقال ابن الكواء للربيع بن خثيم: ما نراك تعيب أحدًا ولا تذمه. فقال: ويلك يا بن الكواء ما أنا عن نفسي براض فأتفرغ من ذنبي إِلى حديث الناس إن الناس خافوا الله على ذنوب الناس وأمنوه على نفوسهم”، وعن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: لولا أني أكره أن يعصى الله: لتمنيت أن لا يبقى في هذا المصر أحد، إلا وقع في واغتابني؛ وأي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة، يعملها، ولم يعلم بها”.

وهل يصدق هذا النعت على غيرك؟ فقد عشت وقد سلم الناس من لسانك ويدك، كافا عنهم شرك، غير عاذل لهم، ولا مكرر لهم ملامة وعتابا.

وعن عبد الرحمن بن مهدي، قال: ليتق الرجل دناءة الأخلاق، كما يتقي الحرام، وقال الفضيل بن عياض: ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصح للأمة”.

وكذلك كنت في أخلاقك الفاضلة والنصح لأصحابك وتلاميذك، لك خلق عذب، وصدر رحب، وسيط البيت في شرف المعالي، تعامل الناس برأي رفيق، وتلقاهم بوجه طليق، صبورًا على ما نابك من بوائق، ومحتملا للأذى من المخالف والموافق.

لقد أتعبت من بعدك أن يجدوا لك قرينا إلا أخاك، فأنتما نسيبان في خلق وأدب، ولكما المجد والحسب، وأنتما شقيقان، وفرعا دوحة واحدة، ونبتا أصل لايوجد له مثيل، والنجابة لا يكون تمامها لنجيب قوم ليس بابن نجيب.

لقد أعجبنا أن رأينا فيك صورة للسلف، منتسبا إلى نسب يعليك سور المجد، ومنعوتا بالتقى والزهد، وطاعات تعطي جنان الخلد، وساءنا أن يقرننا الناس بك ويرجوا أن نكون لسيرتك مقتدين، وبأسوتك متأسين، وأنى يدرك الظالع شأو الضليع؟ وأنى يحاكي المتكلف المتصانع المبتكر البديع؟ فمن الظلم القبيح أن يبتغي المبتغون في عصرك لك قرناء وفي بلدك نظراء.
لن أنساك شيخنا الكريم، وكيف أنسى من يذكِّرني أن لا نديد ينوب عنه ولا ضريب، ألامُ إذا ذكرتك فتفجرتْ عواطف من الحب ومشاعر تتبعها أخرى لا تنضب ولا تغيب، وليعلم الأعادي أني في بلاد الغرب عليك محزون كئيب.

رحمك الله أبا جعفر، وأثابك من كريم ما لديه، وأنزلك جنات النعيم.