بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
توفي اليوم (يوم الخميس خامس جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة وألف) شيخنا المجيز المعمر العالم الصالح الشيخ محمد بن الأمين أبو خبزة، وهو من أبرز علماء المغرب تدريسًا وتأليفا وإصلاحا، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنانه.
وهو الشيخ المسند العلامة الشريف أبو أويس محمد بن الأمين بن عبد الله بن أحمد بن أحمد بن الحاج أبي القاسم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عمر بن سعيد بن يحيى بن عبد الله بن يحيى بن سعيد بن يحيى بن محمد بن الولي الصالح أبي الحسن علي بن الحسن الحسني الإدريسي العمراني المكنى (بوخبزة) من ذرية الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولد بتطوان يوم السبت 26 ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وألف، وتلقى مبادئ القراءة والكتابة والحساب والدين وحفظ القرآن على عدة شيوخ، وأخذ عن الأستاذ السيد محمد زيان بعض المتون العلمية كالآجرومية، والمرشد المعين على الضروري من علوم الدين، والخلاصة وهي ألفية ابن مالك، وبعض مختصر خليل في الفقه المالكي.
والتحق بالمعهد الديني بالجامع الكبير ومكث فيه نحوَ عامين تلقى خلالها دروساً نظامية مختلفة في التفسير والحديث والفقه والأصول والنحو البلاغة، وأخذ عن والده رحمه الله الآجرومية والألفية إلى باب الترخيم، كما أخذ دروسا في الفقه المالكي بالمرشد المعين لعبد الواحد بن عاشر، على الفقيه القاضي السيد عبد السلام بن أحمد علال البَختي الودْراسي، ودروسا أخرى في النحو على الأستاذ السيد المختار الناصر، وعلى الأديب الكاتب الشاعر الناثر الفقيه المعدَّل السيد محمد بن أحمد علال البَختي المدعو ابن علال، وعلى الفقيه المؤرخ وزيد العدلية السيد الحاج أحمد بن محمد الرَّهوني، وكان هذا في الغالب في رمضان قبل أن ينتقل بسكناه إلى جِنانِهِ بِبُوجَرًّاح، وكان يسرُد له السيد محمد بن عزوز الذي تولى القضاء بإحدى قبائل غُمارة وبِها توفي، وكان يسرُد له أحيانا صحيح البخاري السيد عبد السلام أًجْزُول لجمال صوته، وعلى الفقيه المدرس النفّاعة السيد الحاج محمد بن محمد الفَرْطاخ اليَدْرِي.
وأخذ في فاس دروسا على الفقيه الشهير محمد بن العربي العلَوي بالقرويين في أحكام القرآن لابن العربي، وانتفع جدا بدروس العلامة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي في التفسير والحديث والأدب، وقد أصهر إلى الحافظ أحمد بن محمد ابن الصّدّيق الغُماري، وأجازه إجازة عامة بما تضمنه فهرسه الكبير والصغير، وأجازه أيضًا الحافظ عبد الحي الكتاني، والشيخ عبد الحفيظ الفاسي الفهري، والشيخ الطاهر بن عاشور بمنزله بتونس عام 1382هـ، وتدبج مع شيخنا محمد بن عبد الهادي المنوني.
وأكب على التدريس والكتابة، وله تحقيقات ومؤلفات نافعة ومقالات علمية، أدبية وثقافية. وكتب إلي في شعبان سنة عشرين وأربع مائة وألف رسالة نصها: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا، جناب الأخ بظهر الغيب الأستاذ الفاضل محمد أكرم الندوي المحترم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته، أما بعد: فقد تسلمتُ بالأمس كتابكم الكريم المفيد سلامتكم وحرصكم على الخير، ورغبتكم الأكيدة في ربط الاتصال بسلفنا الصالح فيما يرجع للحديث النبوي ورواية أصوله تبركًا وتدينًا، ولذلك طلبتم من أخيكم الضعيف إجازة عامة عامة بما رواه عن مشايخه. وجوابًا عليه وتلبيةً بطلبكم أوجه إليكم نص الإجازة والترجمة الشخصية مؤكدًا للإذن بالرواية لكم ولمن سميتم من الإخوة والبنات أصلحهم الله ونفعنا وإياهم بذلك، ومعتذرًا في نفس الوقت عن الكتابة لطولها ومحيلاً لكم على كتب المشايخ، والمطبوع منها: فهرس الفهارس للكتاني، ورياض الجنة، والآيات البينات لعبد الحفيظ الفهري في المسلسلات، والمعجم الوجيز لابن الصديق. أما ثبت المنوني فهو مرقوم. وأحدثكم كتابةً بمثابة المشافهة إذ تعذرت هذه الساعة بمسلسل الرحمة فيكون أول حديث أحدثكم به إخبارًا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وهو صحيح. فبلغوا هذا لإخوتكم وبناتكم رحمنا الله وإياكم وجعلنا من الراحمين المرحومين آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
نص إجازته لي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أكرم علماء هذه الأمة بالدرجات العلى، وأنزلهم منازل الوراثة النبوية في الآخرة والأولى، وجعلهم عدولاً في الدين، لحمل شرعه مؤهلين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، في كل وقت وحين، كما أثر عن النبي الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وخص هذه الأمة بمنقبة الإسناد، وميَّزها به بين العباد، فانفردوا في الدنيا باتصال النقل مسندًا إلى مصدره اتصالاً وثيقًا، بأحكام وقواعد أحكمها جهابذتهم إحكامًا دقيقًا، فكان لهم أن يفخروا بهذه المزية العظمى بين العالمين ما شاء لهم افتخار، كما شهد لهم بذلك الموافق والمخالف من الأبرار والفجار، فالحمد لله لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، ونصلي ونسلم على نبينا المصطفى، ورسولنا المجتبى القائل: “ألا إنما أوتيت القرآن ومثله معه” فكان حديثه الشريف هو الحكمة المقرونة بالكتاب، فلا يجوز لنا أن ندعه، وعلى آله الأبرار، معادن الصدف والأسرار، وأصحابه الأخيار، حملة الشريعة ورواة الآثار، وبعد: فلما كان الشأن في الحديث ووسيلة وصوله إلينا ما أشرنا إليه، كان حرص المسلمين سلفًا وخلفًا على التلقي والرواية وسائلها وأنواعها بالغًا أقصى الغايات، ونهاية النهايات، فكان على الإسناد في القرون الخمسة الأولى الاعتماد والمدار، لاتساع مهمة التدوين والجمع المستقصى في تلك الأعصار، ثم استمر الاشتغال به والعناية، لبقاء سلسلته متصلة الحلقات إلى النهاية، واستجلابًا لبركة الاتصال بالسلف الصالح، حتى يتزكى بيمن التشبه بهم الخلف الفالح، ولله در القائل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام رباح
وكان كاتبه، أصلح الله حاله، وبلّغه في الدارين آماله، ممن أنعم الله عليه بالانحياز إلى أولئك الكرام، والاندراج في سلكهم موصولاً دون انصرام، مجازًا من شيخه إمام العصر، ونادرة الدهر، الحافظ الكبير الشيخ أبو الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري إجازة عامة بما حواه ثبته الكبير (البحر العميق في مرويات ابن الصديق) ويقع في مجلدين، ناولنيه الشيخ في أصله الذي بخطه، المحفوظ الآن عند بعض تلامذته بطنجة، ويوجد فرعه بخطي بخزانة تطوان العمومية، ومختصره المسمى (المعجم الوجيز للمستجيز) المطبوع بالقاهرة في جزء لطيف، ومشافهة من المشايخ محمد عبد الحي الكتاني، وعبد الحفيظ الفاسي الفهري، والطاهر ابن عاشور التونسي، وتدبيجًا مع الشيخ محمد بن عبد الهادي المنوني، ومناولة من الشيخ ناصر الدين الألباني لبعض كتبه بمنزله بالمدينة النبوية عام 1382هـ، وتراجع أسانيدهم في فهارسهم رحمهم الله وإيانا، وكان ممن رغب في ربط اتصاله بي واستجازني لحسن ظنه، وجميل أدبه، وحرصه على الخير، الأخ المكرم الأستاذ محمد أكرم الندوي وأخيه محمد مزمل وأخواته أسماء وعاصمة وصائمة، وبناته حسنى وسمية ومحسنة ومريم وفاطمة، فأجبت طلبته، وأسعفت رغبته، قائلاً له:
جمعتَ لكل مكرمة مجازا وتؤثر للتواضع أن تجازا
أجزت لك أيها الأخ الوفي، المتودد الصفي، إجازة عامة كل ما تصح لي روايته عن شيخي المذكور مما حواه ثبته المذكور من معارف وعلوم، وأوضاع ورسوم، ناصحًا نفسي وإياه بتقوى الله، والتثبت في الرواية…والصدق في الأقوال والأفعال، ومواصلة دراسة الحديث والأثر، لأنه العلم الصحيح المعتبر، راغبًا إليك في الدعاء الصالح بظهر الغيب وفي مظان الإجابة، من أماكن الطاعة وأوقات الإنابة، والله يتولى هدانا أجمعين، وينيلنا التوفيق إلى مراضيه في كل وقت وحين، آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.