بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: علمنا حبك لإبراهيم عليه السلام وإجلالك له، ووعينا المعاني الباعثة لك على كل هذا الحب والإجلال، فقد أسهبت في ذكره والتنويه بشأنه في محاضراتك ودروسك وكتاباتك، ولكن لم يتبين لنا مأتى ولعك بموسى عليه السلام وإعظامك له توقيرا واحتراما.
قلت: إني لمغرم بسائر الأنبياء والمرسلين متيم بهم، ولا سيما أولي العزم منهم الذين هم صفوة خلق الله وأحبهم إليه، وهم الأئمة الذين يقتفى آثارهم وينهج نهجهم، وسأكتب مقالات عن بعضهم إشادة بفضلهم واسترعاء للانتباه إلى جوانب من حياتهم تستحق الانتباه فنتأسى بهم، ونقتدي بهداهم.
قالوا: ابدأ لنا بموسى عليه السلام مسلطا الضوء على أبرز معالم سيرته.
قلت: وأنى لمثلي أن يتحدث عمن اصطنعه الله لنفسه، وصنعه على عينه، قد قرأت قصصه في التنزيل، غير راقية مداركي إلى آفاق معانيها، ولا محيطا فهمي بجليل مراميها، وفي نفسي لها شوق زائد، وفي أحاسيسي لها لذة غير منقضية، وألخص تلك المعالم – رغم قصوري وقلة بضاعتي – في أربع نقاط:
الأولى فقره إلى ربه، نشأ في قصر فرعون متربيا تحت سمعه وبصره، ولو شاء لعاش حياته كلها عيشة الملوك والأمراء لعزته على آل فرعون وأنسهم به، ولكنه ترفع عن ذلك الحضيض غير راض بأن ينضم إلى ملأ فرعون الظالمين، مواليًا بني إسرائيل وقد استضعفهم فرعون مقتلا أبناءهم ومستحييا نساءهم، فائتمر الملأ بقتله، ففر منهم إلى مدين، ووجد على مائها أمة من الناس يسقون، وفيهم امرأتان تذودان، فسقى لهما ثم تولى إلى الظل، وقال: “رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير”، لم يظهر فقره إلى فرعون وملئه، أو المرأتين اللتين ساعدهما، أو أهل مدين، في وقت أحوج ما يكون إلى الاستنجاد بالناس واستمناحهم، فإنه غريب معدم معوز، ولكنه تولى إلى ربه غير مؤمن بمولى سواه، ملتجئا إلى ذلك الحمى الآمن، والركن الركين، بمناجاة أخاذة للقلوب وخلابة للنفوس، فيها ذاك الانعطاف الرفيق، والاتصال العميق، فعجل الله بالإجابة لقلب عبده الضارع البائس المسكين.
الثانية مسارعته لإرضاء ربه، تلك المسارعة البريئة الطاهرة النقية التي فديتها نفسي وما ملكت يميني، واعده الله على الطور أن يصعد إليه مع قومه، فسبقهم مستخلفا هارون أخاه عليهم، غلبه الشوق إلى الوقوف بين يدي ربه مناجيا له داعيا، وما أرفعه من شوق! وما أعلاه من حنين!، وقد ضل شوق الناس في الآفلين تائهين مع التائهين. ووقف في حضرة مولاه، وسأله ربه: ما أعجلك عن قومك يا موسى؟ فما أحسن جوابه، جواب يرقق القلوب ويستدمع العيون: “وعجلت إليك رب لترضى”.
الثالثة صبره، صبر على طغيان فرعون وبغيه ملينا له القول ومعاملا إياه بالرفق، وهو عدو مستكبر معاند، ورغم كفره الملح وقد رأى الآيات واحدة تلو الأخرى، ثم صبر على أذى بني إسرائيل في مصر وبعد أن نجاهم من فرعون وظلمه، محتملا منهم مشاق شديدة، وهو الرسول النبي الوجيه الحبيب إلى ربه، ووطن نفسه على الصبر، وما أكرمه صبرا، وقد شهد ربه بما تحمله من أذى “يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا، وكان عند الله وجيها”.
الرابعة تواضعه وهو بين قوم مستكبرين ماشين في ثياب مخيلة، بلغ من تواضعه أن لم يستح من أن يرحل إلى العبد الصالح يطلب منه علما رشيدا، فهل رأيتم تواضعا أفضل منه، رسول نبي من أولي العزم اصطنعه الله لنفسه، واصطفاه بكلامه، ولم يمنعه ذلك المقام السامي من النفير في رحلة بعيدة يتعلم من عبد صالح لم يبلغ مبلغه في العلم والفضل، ولا اصطفاه الله كما اصطفاه، عليهما صلوات الله وسلامه.
قالوا: ألم يقل موسى لفرعون: “وإني لأظنك يا فرعون مثبورا”، وهو كلام فظ غير لين، وما أبعده عن منهج الصابرين! قلت: لقد أسأتم فهم معنى القول بالعربية، فالقول على أنحاء، منها القول بمعنى اتخاذ موقف من المواقف، لما قال له فرعون: “إني لأظنك يا موسى مسحورا”، بعد أن رأى تسع آيات بينات، قال له موسى “لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر”، ثم رد الله تعالى على قول فرعون: “إني لأظنك يا موسى مسحورا” ببيان القول الصحيح: “وإني لأظنك يا فرعون مثبورا” على لسان موسى عليه السلام تعبيرا عن الموقف الصادق، لا أن موسى نطق بذلك القول لافظا إياه بلسانه.
قالوا: أثنيت على عجلة موسى عليه السلام، والعجلة ليست بمرضية،
قلت: إنها غير مرضية لأن المستعجل إلى أمر يتغاضى عما هو أهم منه متغافلا، والاستعجال مضاد للصبر والتوكل، ولكن العجلة إلى الرحمن على قمة عالية من الحسن والجمال والروعة والفخامة، فلا شيء أهم من ابتغاء مرضاته تحببا إليه وتوددا، والاستعجال إلى المولى تعالى عدة الصابرين وسنة المتوكلين.
قالوا: فلم سأله الله: ما أعجلك عن قومك؟
قلت: لو لم يسأله لأساء الناس بموسى ظنا واتهموه اتهاما، فلما سأله وأجابه موسى: “عجلت إليك رب لترضى” علمنا شرف المعنى الذي قصده موسى عليه السلام والسمك الذي سمكه، وهل يلام الطفل إذا عجل إلى أمه في لهف وحنين، وفي فعل كليم الله من الحب الكامن والعطف والتضرع والإنابة ما يعرفه العارفون ويتذوقه المتذوقون، وهو مثل ما ورد في قصة إبراهيم إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى، فسأله ربه: أو لم تؤمن، سأله حتى لا يسيئوا الظن بإبراهيم عليه السلام، فلما قال: “بلى ولكن ليطمئن قلبي” عرفنا جلالة سؤاله، وأن سؤاله مختلف عن الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: أنى يحيي الله هذه بعد موتها.
قالوا: أليس في فتنة الله تعالى قومه بعده دليل على خطأ موسى في الاستعجال؟
قلت: لا، بل في ذلك ثناء على موسى، فموسى مستعجل إلى ربه، وقومه مستعجلون إلى الفتن، وقد استعجلوا إلى الضلال وموسى معهم إذ سألوه أن يجعل لهم إلها، وإذ قالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، فقد عصوا واعتدوا وموسى معهم حتى رفع الله فوقهم الطور، وهل تعذر بنو إسرائيل في كفرهم وحبهم العجل بتأخرهم عن موسى عليه السلام.
قالوا: قد عجبنا من المعنى الذي أشرت إليه في فقر موسى إلى ربه،
قلت: ليعجب العاجبون، فو الله ما رأيت في الأدعية دعاء مثله في الذل والانكسار بين يدي الله تعالى والضراعة إليه.
فكونوا قصيري الخطا عن الشرور، غير صابغي ذوائبكم بالآثام، ولا خاضبي مفارقكم بالذنوب، ولا معيبين بالعيوب، ولا مغترين بالأمل الكذوب، واستعجلوا إلى ربكم فقراء إليه، رافعي شكاويكم إليه، ففي يده كشف المضرات والبلايا، وهو المولى الذي لا يعجل العباد إلى سواه.