بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: تفقَّهنا عليك في النحو، متلقِّين عنك شرح قطر الندى، وشرح شذور الذهب، والمفصل، وأنت تمجّد أئمة النحو البصريين وتنوّه بشأنهم تنويها، مُشِيدا بـكتاب سيبويه مطريًا له إطراءًا، وغيرَ قاضٍ عجبك من إبداعات أبي علي الفارسي، وعبد القاهر الجرجاني، وابن يعيش وغيرهم، فوقع في قلوبنا حب مدرسة البصرة، وازددنا بها شغفا وولَعا، وما أقْسَاك على مدرسة الكوفة وما ألذَعَ انتقادَك لأعلامها في غير هوادة ولا لين، انتقادا أقرب إلى الطعن فيهم والاستخفاف بشأنهم.
قالوا: ما صرفك عن منهج الاعتدال الذي تكلَّفته فصار طبيعة لك وغريزة فيك؟ وما لك مُوغِلاً في حب البصريين مُمْعناً فيه؟
قلت: على رسلكم، ومهلاً بعضَ هذا العذل والتثريب، والحب يعمي ويصم، وقد هويت البصريين في النحو والزهد كما هويت الكوفيين في القراءة والفقه مفتتنا بهم أيَّما افتتان، وأنزلتُ “الكتاب” في النحو منزلة الصحيحين في الحديث، وأحببت الزمخشري وأبا علي والجرجاني وابن هشام محبتي لأبي الحجاج المزي، وابن تيمية، والبرزالي، والذهبي،
قالوا: جُننت بمن تهوى، فقلت لهم: وهل لذة العيش إلا للمجانين.
قالوا: عذرناك في هيامك بهم وغرامك فهم أحق بذلك وأجدر، ولكن أنكرنا مغالاتك مستهجنين لها استهجانا، فيا ليتك أنصفت فيهم وبصّرتَنا بعيوب البصريين ومواضع الضعف في نحوهم،
قلت: أبتْ شفتاي أن تنبس بشيء من مثالبهم، وهم أصحابي، وإليهم أنتمي، وفي سلكهم أنخرط،
قالوا: إنها أمانة علمية في عنقك، فعلّمنا منها ما نحتاج إليه وإن كنت لذلك من الهاجرين، ومنه من النافرين،
قلت: أمَّا إذ أبيتم فاسمعوا: امتازت مدرسة البصرة بسمات من دراسة وبحث وتحقيق، وسبر وخوض وتدقيق لا يوجد لها نظير في سائر العلوم الإسلامية، بل وسائر المعارف البشرية، فأصلت الأصول تأصيلا، وقعدت القواعد تقعيدا، وأنتجت ذلك “الكتاب” والذي كأنه معجزة العقل البشري، والجهد الإنساني، وانظروا إلى صياغاتها البديعة وصناعاتها الخارقة في أبواب المرفوعات والمنصوبات والمجرورات، وتصرفاتها المدهشة الطريفة في الموافقات والفروق، فمثلا كيف استقرأوا واستقصوا الفرق بين “إنَّ” المكسورة و”أنَّ” المفتوحة، و”أنْ” المصدرية و”أنْ” المخففة من “أنَّ”، و”هل” والهمزة وغيرهما من الحروف التي تدخل الفعل والاسم، وما أندر ما قصَّروا في تحقيق مواضع، وهي يسيرة معدودة، ولا لوم عليهم فهم بشر كسائر البشر، تجري عليهم قوانين البشرية،
قالوا: بيِّن لنا بعض تلك المواضع،
قلت: ما أحرصكم على تجسس زلاَّت أصحابي – فداء لهم نفسي وما ملكت يميني – وتتبع عثراتهم، فادنُوا إلي أُسَارَّكم:
1- أصر البصريون أن “إنْ” وغيرها من حروف الشرط لا تدخل إلا على الأفعال، وأوَّلوا الأمثلة المخالفة لقولهم تأويلا، فمثلا قوله تعالى و”إن امرؤ هلك”، أولوه على إضمار فعل يفسره الظاهر، ويا ليتهم لم يذهبوا إلى هذا التضييق، فأمثلة دخول “إن” الشرطية على الأسماء كثيرة في كتاب الله وكلام العرب، كقوله تعالى “وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا”، “وإن أحد من المشركين استجارك”، وقال أبو ثمامة الضبي من شعراء الحماسة:
وإنْ منطق زل عن صاحبي تعقَبت آخر ذا مُعتقبْ
وقال حماسي آخر:
إنْ أنتمُ لم تطلبوا بأخيكم فذروا السلاح ووحِّشوا بالأبرقِ
2- وقالوا: “لولا” لا يتقدم عليها جوابها لأنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام، وكان من هذا التعميم أن أساؤوا في فهم قوله تعالى “ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه” أيما إساءة، وجرّ ذلك أتباعَهم من المفسرين إلى أفحش قول وأقذعه، وقالوا: معناه: ولقد همَّت بمخالطته وهمَّ بمخالطتها، لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، وجاؤوا في ذلك بأخبار تنال من عظيم شأن الأنبياء عليهم السلام، وتناقض الغرض الذي قص الله علينا من أجله أحسن القصص.
ولو أنهم وقفوا على “ولقد همت به”، وجعلوا “همَّ بها” جواب لولا المقدم لما تورطوا فيما تورطوا فيه، وتقدم الجواب على الشرط له نظائر في كتاب الله وغيره، كقوله تعالى “فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين”، و”وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”.
3- ومن ذلك باب الاشتغال أو ما أضمر عامله على شريطة التفسير، فقالوا: زيدًا ضربته، على حذف عامل في زيد يفسره ما بعده، فكأنه قيل: ضربت زيدا ضربته. ومنه “عمرا لقيت أخاه” و”بشرا مررت به”. فقالوا: معناه لابست عمرا لقيت أخاه، وجعلت بشرا على طريقي مررت به.
فجاؤوا بما تأبى منه العرب الأقحاح، ولقد أحسن الكوفيون في هذا المقام، وقالوا: هو منصوب بالفعل الظاهر، وإن كان قد اشتغل بضميره، لأن ضميره ليس غيره، فإذا تعدى إلى ضميره كان متعديا إليه، فهو كقولك ضربت زيدا، ولقيت عمرا أخاه، ومررت ببشر، وفيه تفصيل لا يطيقه هذا الموضع.
4- وقالوا: الماضي لا يقع حالا إلا إذا كانت معه “قد”، ويرد عليهم قوله تعالى “أو جاؤكم حصرت صدورهم”. فقوله “حصرت صدورهم” حال، ويؤيده قراءة من قرأ “حصرةً صدورهم”.
قلت: وثمة تعليلات نحوية أخطأوا فيها، وأصاب فيها الكوفيون، ولعلكم تملُّونني إن أوردتُ بعضًا منها،
قالوا: حسبنا ما ذكرتَ من الأمثلة، ولكن اكشف لنا ما أوقعهم في مثل هذه الأخطاء؟
قلت: أمران: أولهما أنهم اعتنوا باللفظ عتناءًا بالغا، ولم يعتنوا بالمعنى اعتناءًا يستحقه، وأوضح مثال لذلك هو باب الاشتغال، فلو نظروا في المعنى لما ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه، والثاني تعميم أقيستهم وتعليلاتهم، وما اللغة إلا ما يتواضع الناس عليه ويتوافقون، وما أكثر ما يتنكبون عن مهيع لمعنى يخطر ببالهم ويصرفهم عنه.
قالوا: الذين خدموا النحو أئمة كبار، فكيف جاز عليهم ذلك؟
قلت: لعل مأتاه أن أغلبهم من العجم، فكان جُلُّ همهم الإعراب، فنظروا في اللفظ واعتنوا به، وهم كبار النُّظَّار، والنُّظَّار تشغل عقولَهم وأفكارَهم القواعد الكلية، وينفرون من الاستثناءات والأمثلة الشاذة، فشدَّدُوا في أصولهم، وأوَّلوا ما خالفها تأويلا.
قالوا: فما توصينا؟
قلت: تعلَّموا النحو على مذهب البصريين، ثم اعتنوا بخلافاتهم مع الكوفيين،
قالوا: وهلا ذكرتَ البغداديين والأندلسيين؟
قلت: يُذكرون إذا ذُكر الفرس والهنود وأمم من أجناسها وشعوب.
قالوا: زدنا،
قلت: واعلموا أن اللغة العربية أوسع اللغات وأثراها لا تحيط القواعد بمناهجها وأساليبها وتفننها في الكلام والبيان، فأكثروا من النظر في القرآن الكريم، وكلام الفحول من شعراء العرب الجاهليين والإسلاميين، وإياكم إياكم شعر الأعاجم، فقد أفسدوا اللغة العربية لفظا ومعنى، ويا أسفى ووا لهفاه إذ قلَّدهم العرب في عجمتهم، فاستحالوا عجم اللسان حِصارا، وإن كانوا عربا أنسابا وديارا.