بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ما معنى الدين والمذهب؟
قلت: الدين إطاعة الله ورسوله، وهو صراط الله المستقيم الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، والمذهب في الأصل هو المنهج التطبيقي للدين، ثم تطوَّر إلى منهج فكري كذلك، وقد حدث لدى المتأخرين من أتباع المذاهب الفقهية انزلاق في معناه متحولا من المنهج إلى أن يعامل كعقيدة أو مجموعة من العقائد يتشبثون بها تشبث أهل الأديان بمبادئهم وثوابتهم، وهو غلو في فهم معنى المذهب وموالاته، فأفضل طريق لأي واحد في سبيل موالاته لمذهبه أن يكون صادقا مع سِمَته الأصيلة وميزته البارزة كمنهج.
قالوا: ما المتفق عليه بين المذاهب الفقهية؟
قلت: هو المقصد العام المشترك للتقرب إلى الله تعالى، وهو ثلاثة أمور: الأول: أصول هذا الدين من الذكر والتقوى والزهد والشكر والصبر وخوف الله ومحبته والشوق إلى الجنة وتوقي النار وما إلى ذلك من الأصول التي بينها القرآن الكريم أي بيان، واستن بها النبي صلى الله عليه وسلم متخلقا بها تخلقا لا مطمع لأحد في اللحاق به. الثاني: فروع الدين الكبرى كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد، والتي فرضها كتاب الله تعالى مفسرا كلياتها، وطبقها النبي صلى الله عليه وسلم ميسرا للناس تفاصيلها وجزئياتها. الثالث: فروع الدين الصغرى الثابتة بالقرآن والسنة والإجماع ككثير من مسائل الوضوء والغسل وتفاصيل الصلاة والزكاة والحج التي أجمع عليها العلماء.
قالوا: فما المختلف فيه بين أصحاب المذاهب؟
قلت: ثلاثة أشياء:
الأول: فروع الدين الصغرى التي توصلوا إلى الحكم فيها بالقياس كاختلافهم في العقود والمعاملات.
الثاني: فروع الدين الصغرى المعتمدة على أدلة متضاربة، فاجتهدوا فيها ترجيحا وتأويلا.
الثالث: مسائل نازلة، فاختلفوا في حلولها جراء آثار تطبيق مناهجهم المختلفة النابعة من تجارب معيشتهم حسب السياق الزماني والمكاني الخاص.
قالوا: ما الذي يميز مذهبا من آخر؟
قلت: منهجه الفكري، أي منهج تقييم نصوص المصادر وتعليلها وتطبيقها وطرق أقيستها وترجيحاتها.
قالوا: ما الذي يميز المذهب الحنفي من غيره من المذاهب؟
قلت: أمران:
الأول: تأثير شيوخه الكبار فيه، فهو عبارة عن آراء عبد الله بن مسعود وعلقمة والأسود وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وأصحابه، أي إن المذهب الحنفي من حصيلة آرائهم جميعا.
الثاني: التأثير المحلي في زمن بعينه، فنشأة المذهب في الكوفة صبغته صبغة خاصة، كما أن المذهب المالكي لا يمكن فصله عن عمل أهل المدينة.
قالوا: هل تعمد أبو حنيفة وأصحابه أن يتبعوا أقوى الدلائل في كل مسألة من المسائل التي اختلفوا فيها عن غيرهم؟
قلت: هم في ذلك على طريقة غيرهم من الأئمة كمالك وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، يقدمون رأيا على آخر ويرجحونه عليه بناءً على أحد المبادئ الآتية:
1- إما أن يرجحوا رأيا لقوة دليله لديهم، وأمثلته مستفيضة مشهورة، ومتكاثرة متوافرة.
2- أو يرجحوا رأيا تيسيرا على الناس وتسهيلا، ومنه المسائل التي ترخصوا فيها من أجل عموم البلوى، ومنه القاعدة الفقهية: المشقة تجلب التيسير.
3- أو يرجحوا رأيا لأنهم نشأوا عليه من سنن بلدانهم وعاداتها، فلم يروا حاجة لتغييره مادام لهم دليل عليه يبرره تبريرا، وإن كان لغيرهم أدلة تساوي أدلتهم في القوة أو تفوقها، فاختار أبو حنيفة تشهد أهل الكوفة وهو تشهد ابن مسعود، ورجح الشافعي تشهد ابن عباس، وقدم مالك تشهد أهل المدينة، وكذلك أخذ الشافعي أذان أهل مكة، وأخذ أبو حنيفة أذان أهل الكوفة، وتبع أبو حنيفة وأصحابه مذهب أهل الكوفة في النبيذ.
قالوا: ما المعتمد عليه في معرفة المذهب الحنفي؟
قلت: كتب محمد بن الحسن المعروفة بكتب ظاهر الرواية، ثم كتبه الأخرى وكتب أبي يوسف القاضي وما وصل إلينا من طرق غيرهما من أصحاب أبي حنيفة، ثم مختصر القدوري، والمبسوط للسرخسي، وتحفة الفقهاء للسمرقندي، وشرحه بدائع الصنائع للكاساني، والهداية للمرغيناني.
قالوا: ما الذي تنتقده على العلماء المتأخرين من المذهب الحنفي؟
قلت: أربعة أشياء.
الأول: إنهم لم يبذلوا الجهود اللازمة في تفهم منهجه الفكري واتباعه، بل قصارى جهودهم تقليد آراء أبي حنيفة وأصحابه بل وتقليد اختيارات من بعدهم من المصنفين وترجيحاتهم في جزئيات المسائل وإصرارهم عليها رغم تطور الزمان والمكان.
الثاني: إنهم خرجوا على على تخريجات من مضى من شيوخ مذهبهم وفرعوا على تفريعاتهم واتخذوا مقيساتهم أصولا ومقيسا عليها، تاركي الرجوع إلى المصدرين القرآن والسنة، ولو استندوا إليهما لعرفوا أن كثيرا من المسائل في المذهب ليست أقوى دليلا، وإنما كانت أيسر أو كانت أعرافا فصارت أجزاء من المذهب، وإذن لاجتهدوا فيها وتوصلوا إلى آراء أقرب إلى الكتاب والسنة وإلى طبيعة هذا الدين وروح شريعته.
الثالث: إنهم تركوا الاستفادة من المذاهب الأخرى غاضين أبصارهم عن تقدير جهودها والنظر في مكاسبها، ولو استمرت المقارنة بين المذاهب لكانت لها فوائد إيجابية من تبادل الآراء وتصحيح الأخطاء وتطوير للمناهج، بل والتقارب بينها وتقليل التجافي بينها.
الرابع: إن الفقهاء والمفتين تكاسلوا في العلم والنظر مقتنعين بآخر الكتب صدورا في لغاتهم المحلية، وهذا التكاسل قد تفاقم أمره في عصرنا، فقد شاهدنا كثيرا من المفتين يعتمدون على كتب الفتاوى المعاصرة التي ينقصها الإتقان واتباع منهج علمي سائغ، مستغنين عن الرجوع إلى مصادر المذهب الحنفي بله المصدرين القرآن والسنة.
قالوا: فما توصينا؟
قلت: أوصيكم أن تفرقوا بين الدين والمذهب، فالدين وحي إلهي، والمذهب منهج بشري لفهمه وفقهه وتطبيقه، ومن الواجب أن تعرضوا هذا الثاني على الكتاب والسنة والمذاهب الفقهية الأخرى، وأن تكونوا مرنين في تطبيقه في مناخكم وعصركم، فكل مناخ له حاجاته وقيوده، وكل عصر يختلف عن غيره، وهذه الأحكام الفقهية الجزئية إذا لم يتم تطبيقها في ضوء سياقاتها الزمنية والمكانية فإنها تسبب مشاكل للمسلمين وتزيدهم بعدا عن دينهم، وجاهدوا أن تربطوا الفروع بالأصول والجزئيات بالكليات، وليكن همكم هو تربية نفوسكم على ذكر الله وخوفه ومحبته وتقواه والزهد، والتقرب إليه، واتباع الجماعة، وتوحيد كلمة المسلمين، حنفاء لله مخبتين إليه منيبين.