بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: هل ينزل عيسى ابن مريم عليهما السلام حكما مقسطا قبل يوم القيامة؟
قلت: ما لكم وهذا السؤال؟ ألم تعلموا أني أكره مثل هذه الأسئلة الكلامية والعقدية التي لا تنفع شيئا في الدين والدنيا، مستغنى عنها في أمور الإيمان والإسلام وعبادة رب العالمين، وغير مبتغى من ورائها إلا جدال عقيم أو مراء غير مبارك فيه؟
قالوا: قد علمنا ذلك منك، مقتنعين بموقفك السني الوقور المنيف، مقدرين لوجاهته وخطورته وجلالته تقديرا، غير حائدين عنه قيد شعرة ولا مبتغين عنه حولا، ولكن قد بقل قِبَلنا من تقفر العلم تقفرا وأثار هذا السؤال وأنكر نزول عيسى بن مريم عليهما السلام، صارفا البسطاء الكسالى العاطلين من ذوي الغِرة والخرق والغفلة عن عبادة الله وسائر ما يهمهم، وشاغلا لهم بما ذكرتَ من الجدال العقيم والمراء الغير المبارك فيه.
قلت: دعوا من اتخذ الاستغراب ديدنه عائفين إياه مهملين، غير حافلين به ولا عابئين، فهو أحد الثلاثة: 1- إما أنه مجتهد، فأخطأ في اجتهاده، فإن كان مخلصا لله وناصحا لهذا الدين وللمسلمين، فله أجر، فلا تتصدوا له بالرد والإنكار. 2- أو أنه جاهل، فعلِّموه كاشفا له عن وجه الحق ومزيلا له عما التبس عليه منه واشتبه اشتباها، عسى أن يهديه الله إلى الصواب، فيتعلم وينتفع، ويرعوي عن جهله ويرتدع عنه ارتداعا. 3- أو أنه معاند، فتولوا عنه وأعرضوا عنه إعراضا، وذلك أعون على إخماد ناره، وإماتة فتنته، ووقاية المسلمين شر عناده.
قالوا: إذ قد أثير هذا السؤال تطلعنا إلى معرفة رأيك في الأمر.
قلت: رأيي الذي اقتنعت به غير شاك فيه ولا مرتاب أن عيسى بن مريم عليهما السلام سينزل قبل يوم القيامة، ويقتل الدجال، ويؤم المسلمين، ويعيش بينهم فترة حكما مقسطا، ويومئذ يكون الدين كله لله تعالى، ثم يموت كما يموت الناس.
قالوا: ما دليلك على ذلك؟
قلت: القرآن الكريم، والحديث الصحيح، وإجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أما القرآن فقوله تعالى حاكيا عن عيسى عليه السلام: “والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا” (سورة مريم 33) مع قوله تعالى ” وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا )” (سورة النساء 157-159)، دلت آية سورة النساء على رفعه عليه السلام حيًّا إلى الله تعالى، ودلت آية سورة مريم أنه يموت، فاقتضت أن ينزل ثم يموت، وهذا ما أكدته الآية 59 من سورة النساء “وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته”، وقد استدل جمع من السلف بغيرها من آيات كتاب الله تعالى. وأما الحديث الصحيح فما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عادلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، لا يقبل من كافر، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها”. وما أخرجه مسلم عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة، فقال: ما تذكرون؟ قلنا: نذكر الساعة. قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، و خسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من قبل عدن تطرد الناس إلى محشرهم. والأحاديث الصحيحة في المعنى كثيرة. وأما الإجماع، فقد قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم ….. والإيمان أن المسيح الدجال خارج، مكتوب بين عينيه: كافر والأحاديث التي جاءت فيه، والإيمان بأن ذلك كائن، وأن عيسى ابن مريم عليه السلام ينزل فيقتله بباب لد. (أصول السنة:11)، وقال ابن بطة العكبري رحمه الله : “ونحن الآن ذاكرون شرح السنة ووصفها وما هي في نفسها وما الذي إذا تمسك به العبد ودان الله به سمي بها واستحق الدخول في جملة أهلها، وما إن خالفه أو شيئا منه، دخل في جملة من عبناه من العيب، وذكرناه وحذرنا منه، من أهل البدع والزيغ مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة مذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا ….نزول عيسى عليه السلام ثم الإيمان بأن عيسى ابن مريم عليه السلام ينزل من السماء إلى الأرض، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، وتكون الدعوة واحدة. (شرح كتاب الشرح والإبانة: 2/57). وقال ابن عطية: وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى في السماء حي وأنه ينزل في آخر الزمان… (المحرر الوجيز3 /143). وقال السفاريني: “أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة، ممن لا يعتد بخلافه، وقد انعقد إجماع الأمة على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية، وليس ينزل بشريعة مستقلة عند نزوله من السماء، وإن كانت قائمة به وهو متصف بها” (لوامع الأنوار البهية 1/ 94- 95).
قالوا: فلِم لم يصرح القرآن بالأمر تصريحا؟
قلت: كيلا ينشغل الناس عن مقصد حياتهم أي العبادة إلى مناقشة الأمور الفرعية، ومثل ذلك كثير في القرآن إذ يكفي بالإشارة، فيفهمه أولو العلم، ويتوقف غيرهم عن تناوله نقاشا وجدالا.
قالوا: فما لك لم تقل إن الأحاديث في ذلك متواترة مشهورة مستفيضة كما فعل غيرك؟
قلت: لأن المذهب الصحيح المنقول عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم أنهم إذا بلغهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق ثابت أطاعوه وسلموا له تسليما، ولا يبالون بعدد الناقلين، واعلموا أن التواتر وغير ذلك مما ردَّده المتكلمون جدالا في دين الله تعالى من الأمور المخترعة المحدثة في الملة، فإذا صح حديث من رواية الثقات العدول كان حجة من الله تعالى على من بلغه، قال الحافظ ابن عبد البر المالكي رحمه الله : وأهل السنة مصدقون بنزول عيسى فِي الآثار الثابتة بذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نقل الآحاد العدول. (الاستذكار: باب ما جاء فِي صفة عيسى ابن مريم عليه السلام).
قالوا: إذا كان الأمر في الوضوح على ما وصفتَ فلِم لا تجادل هذا المفتئت لتصده عن بدعته وتكف الناس عن شره.
قلت: أكره الجدال أشد كراهية، فإنه مورث الشحناء والبغضاء بين المجادلين والممارين، ومحدث العِته والفوضى في عامة الناس، وفيه صد عن ذكر الله وعبادته، وتعريض الثابت عن الله ورسله للسخرية والضحك والرد والإنكار.
قالوا: ما توصينا به؟
قلت: أوصيكم بعبادة ربكم والإسلام له مخبتين إليه منيبين، مثبِّتين جذور الإيمان في قلوبكم وزائدين منه بالعلم وتلاوة كتاب الله تعالى، وإياكم والجدال والمراء في الدين فإنه يحلق دينكم ويمحق البركة من نفوسكم وأعمالكم، واعلموا أن تسبيحة أو تحميدة أو تهليلة أفضل عند الله من جدال شهور وسنين، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين، داعين إياه بالتوفيق، وبه متعوذين، وإليه ملتجئين، وبحبل كتابه معتصمين، وبسنة نبيه متمسكين.