بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: قد انتفعنا بيومياتك خلال رحلتك للعمرة الأخيرة حافلة بالفوائد، وتمنينا لو أفضت في تفاصيلها وجزئياتها مستقصيا لها استقصاء.
قلت: أثقلت الشواغل كاهلي، فصعب علي أن أجمع نفسي للتوسعة في الكتابة ومد أطرافها، ولما رجعت عن تلك الوجهة فوجئت بمطالب أخرى لا تسمح لي بالعودة إليها. قالوا: فهل تعمدت إهمال أحداث ومواقف في يومياتك متهاونا بها أو غاضًّا بصرك عنها؟ قلت: نعم، دُفعتُ أولا إلى إثباتها، ثم أكرهت نفسي على أن أتركها مطوية، قالوا: وما الذي حملك على ذلك؟ قلت: أسباب، منها ضيق الوقت، ومنها التكاسل، ومنها أن لبعض تلك الأحداث والمواقف اتصالا قريبا برجال يسوءهم أن تنتشر أسماؤهم ويشتهر ذكرهم.
قالوا: لم نقتنع بتلك الأسباب ولا نرى لك عذرا في دفن ما لنا فيه دروس وعبر، فعد إليها واصطفِ لنا منها خلالا.
قلت: سأتحفكم بالكشف عن موقف منها يغالبني أن أقيده تقييدا، وما سرت مسيرا إلا وطيف منه يراودني مراودة،
قالوا: ما هو؟
قلت: تواعدت مع صاحب لنا في المدينة المنورة بالاجتماع خارج باب السلام من المسجد النبوي الشريف بعد المغرب، فلما وافيته جلسنا على ناحية من ساحة المسجد مفروشة بالسجاجيد مغصوصة بالناس، فإذا بشرطي يسعى تخلية تلك الناحية آمرا الناس أن يقوموا، فأخذنا نعالنا وأحذيتنا، وثمة زائر كأنه من أصل إفريقي مشغول بجواله، أبى أن يُصيخ للشرطي، فاشتاط غضبا وانتزع جواله من يده، فرفع الرجل صوته وقال: لن أقوم حتى ترد إلي جوالي، وصرخ الشرطي في وجهه أنه لن يرده إليه إلا أن يقوم، واشتبكا وتضاربا، وحال بعض الناس بينهما، وأصر الشرطي على معاقبته، فتوثب صاحبي من مكانه ملتمسا من الشرطي أن يعفو عنه، والتزمه وقبّل رأسه، وتلطف له في الكلام حتى يلين في موقفه ويرفق بالرجل.
قلت: وقع فعل صاحبي مني موقعا عجبا، ولقد هزَّ وجداني تقبيله رأس الشرطي وسعيه في التخفيف من حدته، وما رأيت موقفا أسمى منه في الإصلاح بين الناس، وزادني ذلك كلفًا بصاحبي وتبجيلا له.
قالوا: ما جوانب السمو والنبل في هذا الحدث؟
قلت: ثلاثة:
الأول حرص صاحبي على الإصلاح مُبليًا جسمه، وهو غير مكترث بأن يمسه سوء، والإصلاح أخو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مقام الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه.
والثاني تعطفه وتحننه وتسارعه إلى إعانة رجل مسلم.
والثالث: تواضعه مقبِّلاً رأس الجندي ومتلطفًا إليه.
قلت: يتفاخر المتفاخرون بذكر أب وجد ونسب يُعليهم سور مجد، والفخر الأصيل في التقى والزهد والصلاح وطاعات ترضي رب العالمين.
قالوا: سمِّ لنا صاحبك هذا.
قلت: لا يضر صاحبي أن لا تقفوا على اسمه، فقد علمه مولاه الذي يثيبه على حسناته، ولا يضركم أن يخفى عليكم شخصه، فحسبكم الدروس التي تستخرجون من هذه القصة، وقد نبَّهنا الله تعالى في كتابه إلى أقوام ولم يسمهم لنا، منهم رجل مؤمن من آل فرعون، ورجلان مذكوران في سورة الكهف جعل الله لأحدهما جنتين، والمرأتان المشار إليهما في سورة التحريم من بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وددنا لو علمنا الرجل.
قلت: همي غير همكم، وشتان بين الهمين.
قالوا: وما همك؟
قلت: يا ليتني كنت إياه، أو كنت شريكه فيه! يا ليتني انتدبت نفسي لذلك الفعل النصيح النقي، فلست أرضى أن أجانب المعالي أو أشاهدها من بعد، ومن صحب ذوي القلوب الطاهرة علَّموه الأريحية والسجايا والشيم التي تسامى مرتقاها.