من وحي المرض

Reading Time: 5 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: تبرَّمْتَ بعلتك التي أدنفتْك وتضايقت بها أيما تضايق، وساءنا أن لم نُلْفِك – كما عهدناك – من الصابرين المحسنين.

قلت: قد تشرَّبتْني الحمى وأضنتني إضناء فجزعت ولم أتجلد تجلدا، وما ينبغي للمؤمن أن يشكو ويبوح بالأسف والأسى، ويتوسل بغير التسليم والرضا، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره،

قالوا: كيف غلبك الشيطان؟ وأنت الذي تعلِّمنا حسن الإطاقة والتجمل، وتقص علينا من أمر يعقوب وأيوب، وصبر إبراهيم وإسماعيل، واحتمال موسى وسيد المرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين.

قلت: ما التشكي لي عادة ولا التأوه لي سجية، ولعله ابتدر لساني به لأمرين، أحدهما ضعف تكوين الإنسان، فقد خلق هلوعا، وتؤثر فيه الأسقام وسائر العلل وتسطو عليه وتتحكم فيه، والثاني أن الإنسان يحتاج إلى من يدعوه إلى الخير ويعظه ويذكِّره تذكيرا، المعلمون يعلمون غيرهم، وليس ثمة من يعلمهم، وإني بعضهم، أؤدب غيري ولا أؤدب نفسي، وأهذب العالمين وأثقفهم وأنا أفقرهم إلى إصلاح ذات النفس، فإذ فاتني التذكير والتربية فشلت في البلوى وجزعت جزعا واضطربت اضطرابا.

قالوا: تستحثنا على الجد والعمل في الصحة والمرض، فما الذي شغلت به نفسك وأنت في معاناتك؟

قلت: إن الوجع أرهقني وأنهكني إنهاكا، وأذهلني عن التدريس والكتابة، وظلت طريح الفراش نحو عشر ليال،

قالوا: لعلك أجَلْت فكرك فاستنبطت لنا ما ينفعنا،

قلت: أصبتُ بصداع فما قدرت على التفكير إلا قليلا،

قالوا: أشركنا في بعض فِكَرك،

قلت: من أخطر ما هداني الله إليه في علتي هذه شأنا وأجلها رتبة أربعة أمور،

قالوا: ما هي؟

قلت:

الأول: كشف لي ربي عن معنى صمديته، نظرتُ فوجدت أن كل ما أحتاج إليه في وجودي وبقائي محتاج إلى مثله لا يستغني عنه، فالعالم كله فقير إلى فقير، وما مثل الأنام إلا كمثل قشور البصل لا لب لها، وأعدت النظر وقلت: ما الذي يربط الفقراء كلها بعضها ببعض؟ فكان الجواب: هو أمر الله الذي كل أمر فإليه يصير وكل شيء فإليه فقير، وهو الذي يربط الأشياء بأسبابها، بل هو الذي يجعل الأسباب أسبابا والمسببات مسببات، فأمر الله هو الحق، وما غيره إلا خلق وقدر يجري لأجل مسمى، وإنا لفي صنع ظاهر يدل على صانع لا يرى، إن الله هو الحي القيوم، وهو الغني الصمد، وهو الشاهد في كل تحريكة وتسكينة، وهو الفاعل لكل محسوس وغير محسوس، كلما رجوت مخلوقا أو سألته عافَتْني نفسي مكفهرة مشمئزة وردتني إلى الصواب وأمرتني أن أرجو رب العالمين وأتضرع إليه بالاستغاثة، ولَلْمولى جل وعلا أقرب إلي وأرجى وأندى وأكرم.

الثاني: انكشاف ضعفي، تحقق لدي ضعف جسمي، وضعف عقلي، وضعف إرادتي، يا رُبَّ أمر زل عني وأدبر إذا ما قلت إني قد تمكنت منه ولي عليه تسلط ظهر، فعرفت أن التكبر والمشي في ثياب مخيلة غرور وكذب وباطل، واستفزاز من الشيطان وإغواء منه، وأني لم أخلق إلا للفناء ولا مسافة بين النعي والبشرى، ما أنا إلا خائض في منى، أحسنها طورا وأقبحها طورا، تقتحم بي دواعي النفس المعاصي والآثام في دار قليل بقاؤها سريع تداعيها وشيك فناؤها، آخذ منها ما شئت وأتصرف كيف أردت، ثم ماذا؟ فآخر هذا كله الموت والهلاك والفناء، فوا بؤساه! ويا لنكدي وشقائي، ووا حرماناه!

الثالث: أننا إذا مات شيخ من شيوخنا أشدنا بفضله وتغنينا بمجده، وهذا نفعه قليل، والأنفع أن نتأسى به ونحصل الفضائل التي نعظمه من أجلها ونعلي بها من شأنه ونرفعه رفعا، من الإيمان والعبادة والتقوى والشكر والصبر والزهد والكرم وبذل الجميل وكف الأذى وسائر الأخلاق، فهذا الاقتداء هو الذي ينفعنا في الدنيا والآخرة، لأن الناس بأعمالهم، وليس على متبعي العلماء إلا أن يعملوا بعلمهم فينتفعوا به، والعلم لا يتم إلا بالعمل، وهل العلم إلا كالشجرة؟ وهل العمل به إلا كالثمرة، والعالم إذا حرم العمل فهو والجهول سواء، ولو أن رجلا علم بطريق وعر مخوف ثم سلكه على علم به سمي جاهلا، ومن امتطى هواه ورفض أن يعمل بما جربه هو، أو أعلمه به غيره كان إلى الهلاك أقرب، فعلى العالم أن يبدأ بنفسه ويؤدبها بعلمه ويعظها ويتعهدها برياضتها، وينبغي لمن طلب أمرا أن يكون له فيه نهاية يعتمد عليها ويقف عندها ولا يتمادى في الطلب، فكم من طالب انخرم دون أن يقضي وطره مما طلب وسعى وجمع فأوعى.

الرابع: أن صحيحي البخاري ومسلم أعمق علما وأدق نظرا مما نظن، وأن فيهما من محاسن النكت وغرر الجمل، ومن لطائف المعاني، وغوامض الأسرار ما لا تتقصى مباحثَه الفِكَر، وما لا يتكشف أسراره النظر، فلنعمل فيهما الروية ولنتفقههما ولنستشرحهما من المظان وغير المظان، ولنغش العلماء المتخصصين ممن تميز بصحة الإخاء ومحض المودة، ولنتلطف في الطلب بعقولنا ورفقنا وحسن أدبنا، ولا نقصر في طلب كل علم يمت إلى الفائدة منهما مهما كلف ذلك من النفقة والمشقة، فليست النفقة والمشقة عوضًا من الفائدة، ويجب أن ننصب في هذا السفر أبداننا ونسهر فيه ليالينا وندأب فيه نهارنا، غير متقللي القليل منه ولا مستكثري الكثير، والزاهد في العلم لا يسمى زاهدا، والقانع به لا يدعى قانعا.

وليتحقق الطالب مما راعى الشيخان في كتابيهما من تأليف بديع ونسق محكم، والوجوه التي اتجها إليها والرموز التي رمزاها، والغاية التي جريا إليها، وليعلم المجتهد أن فوائد الكتابين لا يطلع عليها المقتصر على معرفة انتقاء صاحبيهما، بل الفرض المحتوم عليه أن يسعى ليستكشف كيف توصلا إلى ما توصلا إليه من حكم وقضاء، وما لهما من احتجاج عليه واستظهار واستقراء، وما للترتيب الذي سلكاه في وضع ما اختاراه من يد في اكتناه مرادهما وإدراك غرضهما، وهل إن الحديث الذي اختاراه تستوي عندهما أطرافه وأغصانه كلها أم تختلف اختلافا؟ وهل هي أصول تتشعب منها فروع، أم هي فروع ترجع إلى أصول، ولها مقدمات تصل بالنتائج، ونتائج تتحصل من المقدمات؟ والعاقل يكتفي بالعلامات يدخل بها في سرائر الأمور ومضمرات الأشياء ومكنونات النفوس.

قالوا: هذه أمور تختلف بعضها عن بعض، لا نرى بينها نظاما قويا ولا تناسبا جليا،

قلت: هذا هو منهج الفكر العملي، وهو الفكر الذي أرشدنا إليه كتاب الله، وهي سنة رسل الله وأنبيائه، وهو مخالف لمنهج الفلسفة اليونانية، منهج العي والعجز ومنهج التجريد المحض، أعاذنا الله منه، ومع ذلك فإن بين تلك الأمور توافقا وانسجاما فانظروا إن كنتم على النظر القويم صابرين.