من علَّمك الذوق الأدبي؟

Reading Time: 5 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: ما الذوق الأدبي؟

قلت: هي ملكة تمكِّن صاحبها من إدراك الحسن والعيب، والجمال والقبح، والمتعة والتقزز في الأعمال الأدبية والإبداعات الفنية، فالقارئ للنص الأدبي أو الناظر إلى إبداع فني أو المستمع إلى إنتاج شعري مثلا قد يجد فيه ما يعجبه ويلتذ به أو يطلع فيه على ما يبعث فيه النفور والاشمئزاز، وما منشؤ ذلك إلا الذوق الأدبي أو الفني المعتمد على العلم اللازم والمعرفة الصحيحة، فليس الذوق الأدبي أمرا وجدانيا فحسب، بل هو أمر علمي وعقلي أيضًا.

قالوا: ما دوره في النقد الأدبي؟

قلت: الذوق الأدبي ينشئ ملكة التمييز بين المحاسن والمساوئ، وبالتالي قدرة الحكم على النص جماله وقبحه، والكشف عن مزاياه وعيوبه من جهة البلاغة والبيان، فللذوق دور أساسي في التقييم والحكم بناء على الدراسة الجادة للنصوص وتحليلها تحليلا علميا وفنيا، ولا عبرة إلا بذوق المتخصصين، وهذا هو الشأن في العلوم والصناعات كلها، إذ يرجع فيها إلى أصحابها المتقنين لها الخبراء، وكم رأينا من العلماء الهنود والأعاجم يحكمون على الشعر الأنيق الأغرّ بالقبح والرداءة، ويحكمون على رديء الكلام ومستهجنه بالروعة والفصاحة، وما ذلك إلا لقلة الذوق الأدبي الخاص باللغة العربية، ونقصان السليقة الأدبية.

قالوا: ما وسائل تنميته؟

قلت: الأصل في ذلك هو الاستعداد الفطري، ولا يكفي وحده لحصول الذوق الأدبي، بل لا بد من تنميته بتوسيع الثقافة، وصحبة المجيدين للأدب والشعر ونقادهما، ومعايشة الأمثلة الرائعة للكلام البهي الأخاذ، ومزاولة النصوص المليحة الساحرة، وفقه أسرار اللغة، والتمكن من قواعد النحو والصرف البلاغة، فقراءة إنتاجات كبار الشعراء والكتاب الغراء وإبداعاتهم الفائقة استيعابا وتذوقا واستمتاعا هي السبيل إلى تكوين تلك الملكة في النفوس، وتدعمها دراسة علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال، وتعززها تعزيزا. يقول ابن خلدون في المقدمة: اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان، ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان…. فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم و ينظم الكلام على ذلك الوجه جهده، فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه و سهل عليه أمر التركيب، حيث لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب، وإن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلا بما استفاد من حصول هذه الملكة. فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة و جبلة لذلك المحل…. و هذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب و تكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان، فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها.

قالوا: من أخذت عنه هذا التذوق من بين شيوخك في دار العلوم؟

قلت: أخذته من شيخنا عبد النور الندوي،

قالوا: ترجمه لنا.

قلت: هو شيخنا الأديب صاحب الذوق الفطري والمكتسب العلامة عبد النور بن عبد العظيم

الندوي الأزهري، وكان يعرف بنور عظيم الندوي، وتخرج من دار العلوم لندوة العلماء، ثم من جامعة الأزهر، وكان موضوع رسالته في الماجستير “الذوق الأدبي حقيقته ووسائل تنميته ودوره في النقد”. ودرَّس في دار العلوم لندوة العلماء، ودار العلوم الأحمدية السلفية، وترأس مجلتها (الهدى)، ودرَّس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في معهد تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، ثم انتقل إلى دار العلوم لندوة العلماء، واستقر بها إلى آخر أيام حياته مساعدًا لشيخينا الإمام أبي الحسن علي الندوي، والعلامة الشريف محمد الرابع الحسني الندوي، ونافعا للطلاب في الفصول الدراسية وخارجها، ناصحا لهم ومضحيا براحته وصحته في سبيل التعليم والإفادة، والكتابة والصحافة. وهو أحد أعلام الأدب العربي والأردي في شبه القارة الهندية، ليس بالأديب الذي يأخذ من كل شيء بطرف، ثم يهمل أدبه، وينسى ذاته، ويفقد هويته، بل هو الأديب الذي أخذ الأدب من كل أطرافه، متفانيا في عالمه الواسع، وذائدا عن حياضه، وتميز بين معاصريه بما أوتي من ملكة أدبية نادرة، متمرسًا بها، ومتضلعا من أدواتها، مع تمكن ملموس من نقل تلك الملكة إلى تلاميذه وأصحابه، واشتهر في الأوساط العلمية والأدبية بخبرته الصحفية الواسعة الدقيقة وممارسته لمهنة الصحافة في نزاهة وحرية وشعور بأداء الرسالة وخدمة الشعب والبلاد، وقدرة نادرة على تنسيق الندوات العلمية وإدارتها في ثقة بالنفس وفصاحة عجيبة، وعرف بالتوسع والمرونة في الأمور الفقهية مع سلفيته، غير متظاهر بأي انتماء مذهبي أو عقدي، وكان من أبعد الناس عن ذلك، وكان يعد مثالا عاليا لمذهب ندوة العلماء في الترفع عن المجادلات في المسائل الجزئية الفرعية والمشاحنات المؤدية إلى التباغض والتدابر والتقاطع، وكم يؤلمنا رجوع هذه الطائفية البغيضة إلى العلماء والطلاب، لا بارك الله فيها. أخذت عنه علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الجمال، وتعلمت منه الكثير في الأمور الأدبية والصحفية، فكان يصحح لي مقالاتي وتراجمي، منبها على موارد الغلط فيها، ومصححا لأخطائها، ومطورا لأسلوبها وطريقة عرضها، واقفا موقف الأب الشفوق، والأستاذ الناصح الأمين، والخبير الحاذق المتين. توفي في الثامن من شعبان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وألف، وترك فراغًا كبيرًا في محيط ندوة العلماء الفكري والثقافي، ويصعب علي أن أتصور ندوة علمية بدون شخصه. عاجلته المنية، ولكن ما حققه خلال حياته القصيرة من كتابات أدبية وتربية جيل من الشباب يكفي شهادة على مقامه:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
ولعله ثاني شيخنا محمد واضح رشيد الندوي في تربية الطلاب وتدريبهم على الكتابة ولا سيما باللغة الأردية، وأحبه تلاميذه واحترموه احتراما كبيرا، ولا أدري كم كنا نتردد إلى بيته للاستفادة منه أو للقراءة عليه، والنهل من معينه الصافي، فلم يبخل علينا، ولم يضن، بل كان كريما سخيا سهلا لينا، مهذب الحواشي، رقيق الطبع، عف اللسان والقلم، مرهف الحس، صاحب نكت ونوادر علمية وأدبية، لا تمل صحبته ولا تسأم مجالسته.

وتمخض هذا التنوع الثقافي والجهد المعرفي وهذا الاتصال القريب بين الطالب وأستاذه في دار العلوم لندوة العلماء عن التعمق والتحقيق والتوسع، ولا ريب أن هذا المنهج مضن ومتعب، والطريق إليه طويل وشاق، وقد خففت المدارس والكليات والجامعات العصرية المنهاج التعليمي ومقرراته تخفيفا، وتخلصت من ذلك الجهد المضني والطلب المتعب، فما كانت النتيجة إلا أن الطلاب يهدفون إلى النجاح في الامتحانات غرباء عن البحث والتحقيق والفحص والتدقيق، ولا يطمحون إلا أن يتخرجوا موظفين ومهنيين وتقنيين، إلا ما شذ وندر، وإن في ذلك لعبرة لذوي الألباب وأولي البصر.