بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: أخبرنا عن بدء اهتمامك بالحديث النبوي الشريف،
قلت: لما حصلت على شهادة العالمية من دار العلوم لندوة العلماء سنة إحدى وأربعمائة وألف سجلت نفسي في برنامج الفضيلة، وهو عبارة عن اختصاص في التفسير، أو في الحديث، أو في الفقه، أو الأدب العربي، وكنت أرى موضوع الفقه أوفق وأرفق لشدة حاجة الناس إلى فقيه يعلمهم أمور دينهم، أو إلى مُفتٍ يحل مشاكلهم ويعالج قضاياهم، فشاورت شيوخي، وتوجهت إلى أولياء أموري، وقدّر لي اختيار الحديث الشريف موضوعا لمرحلة الاختصاص، وكأنه كان نقطة تحول في حياتي، ومسارا جديدا في في سبيل أفكاري ونظراتي، ودرست صحيح البخاري بكامله دراسة تدبر وتفقه، ومقدمة ابن الصلاح في شرح وبسط، وغيرهما من مصادر الحديث وأصوله، وثبت في قلبي حب صحيح البخاري متمكنا منه، وكان موضوع رسالتي تفسير البخاري الذي جمعته من صحيحه، وأخذت في هذه المرحلة مقدمة صحيح مسلم وأبوابا منه من شيخنا المحقق المتقن شهباز الإصلاحي رحمه الله تعالى، وأبان لنا عن أن مسلمًا لم ينتقد في المقدمة الإمام البخاري ولا شيخه علي بن المديني، وأن المذهب الذي أورد مسلم إجماع الناس عليه هو المذهب الصحيح، وأن اشتراط اللقاء والسماع رأي مستحدث ابتدعه بعض منتحلي الحديث وانقرض القائلون به، وكان رأي شيخنا في ذلك رأيا لم يسبقه أحد إليه في المدارس الإسلامية، ولما ذكرته لشيخنا عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله تعالى في وقت متأخر استغرب أن يكون بعض المدرسين في الهند ينتحي هذا المنتحى، ويبدع منهجا هو السابق إليه. وبعد إتمام الفضيلة عينتُ مدرسا في دار العلوم لندوة العلماء، وخلال تدريسي بها تم إرسالنا سنة ست وأربعمائة وألف إلى جامعة الملك سعود في الرياض لدورة تدريبية لمدة أربعة أشهر، فاغتنمت الفرصة للانتفاع بشيخنا عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله تعالى، وكنت قد حضرت دروسه قبل ذلك في ندوة العلماء لما ورد إليها أستاذا زائرا، فعرفني الشيخ ورحب بي أيما ترحيب في منزله في الرياض، وصرت أختلف إليه اختلافا، وأتردد إلى منزله تردد الظمآن إلى الماء، وقرأت عليه أشياء واستفدت منه في صلاحه وهديه وسمته وأدبه وأخلاقه، وكتب لي الإجازة بخط يده ثلاث مرار في أوقات مختلفة، واقتنعت بإجازته غير مبتغ سواها، فلم أبحث عن الشيوخ والمجيزين استغناء عنهم، غير طامع فيهم، إلا ما كان من استجازتي من شيخنا أبي الحسن علي الندوي رحمه الله تعالى. ثم أرسلني شيخنا أبو الحسن كباحث إلى أوكسفورد سنة إحدى عشرة وأربعمائة وألف، ومما استرعى انتباهي في مكتبتها كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، فاستعرته من المكتبة، وقرأت أجزاءه كلها قراءة ممعنة، وأحببت الكتاب حبا جدا، واشتريت نسخة منه، وأعدت قراءته، حتى قرأته عدة مرات، فأحببت الحديث ورجاله، والإسناد والرواية والإجازة، ثم اطلعت في المكتبة على فهرس الفهارس للحافظ عبد الحي الكتاني، ولم أكن سمعت بالكتاب ولا مؤلفه إلى ذلك الوقت، فقرأته، فوجدت نفسي أشد ما تكون رغبة في الاستجازات، وقرأت الكتاب مرارا، ثم سعدت بلقاء عدد من أهل الحديث من الشباب العرب وتوثقت أسباب الصداقة بيني وبينهم، وأصبح موضوع الحديث والإسناد شغلي الشاغل، والحمد لله على ذلك.
قالوا: من علَّمك الحديث في دار العلوم لندوة العلماء؟
قلت: شيخنا شهباز الإصلاحي، والشيخ عبد الستار الأعظمي، والشيخ ضياء الحسن الندوي، والشيخ محمد زكريا السنبهلي،
قالوا: ترجمهم لنا.
قلت: قد ترجمت للأول منهم في مقال مفرد، وأترجم هنا غيره من شيوخي من أصحاب الحديث:
العالم الكبير المحدث الجليل الشيخ عبد الستار الأعظمي، ولد ونشأ في مئو من أعمال أعظمكراه، وتخرج من مظاهر العلوم بسهارنفور، وأخذ الحديث عن العلامة عبد اللطيف السهارنفوري، والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي، والشيخ منظور أحمد السهارنفوري، وغيرهم من مشايخ مظاهر العلوم.
درَّس في دار العلوم لندوة العلماء سنين، وقرأت عليه كتاب الإيمان وكتاب العلم من صحيح البخاري، وكتابي الطهارة والصلاة من سنن الترمذي، وشيئا من سنن ابن ماجه، وكان يحبني كثيرا ويعيرني ما عنده من الشروح الحديثية محذرًا إياي من الحافظ ابن حجر العسقلاني، فقد كان الشيخ يرى أن قراءة فتح الباري قد تؤثر في تأثيرا سلبيا وتنفِّرني من المذهب الحنفي أو تزهِّدني فيه أو تقلِّل من شأنه لدي تقليلا.
وله شرح على سنن الترمذي، كان يدرِّسنا منه، وكان معنيا بالدفاع عن المذهب الحنفي، ومنازعة غيره من المذاهب، وكان يحاجُّ كثيرا من شارحي الكتب حجاجا قويا جدا، منهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، والعلامة المحدث عبد الرحمن المباركفوري، والعلامة المحدث الكبير الشيخ أحمد محمد شاكر، وقد يرد على علماء أهل الحديث كالعلامة نذير حسين المحدث الدهلوي ومن على شاكلته، وكان رده عليهم في نطاق الأمور الفرعية والآراء الفقهية، وإنك لتسمع صوته العالي ونفسه الطويل في هذه الحلبة فتراه الفارس المجلي المحسن استخدام الأسلحة، فلا يُغفل مخالفا ولا يرحم منابذا، ويتناول كل شارح أو معارض للحنفية بما يكشف عواره ويهتك ستاره، وليس منهجه هذا غريبا، فإنه هو المنهج السائد في عامة المدارس الهندية، نعم هو غريب في جو ندوة العلماء الذي ينتشر منه أريج التوسع في الفروع والجزئيات، ويفوح منه شذى احترام العلماء على اختلاف مذاهبهم وتنوع آرائهم.
هذا، ولم تتيسر لي تفاصيل ترجمته، ولم أطلع على تاريخ وفاته، رحمه الله تعالى رحمة واسعة ورفع درجاته، فقد كان من العلماء الصالحين المخلصين.
والشيخ العلامة المحدث المحقق ضياء الحسن الندوي بن الحافظ عبد الحي المئوي الأعظمي، ولد في شهر رمضان سنة خمسين وثلاثمائة وألف في بلدة مئو نات بنجن، ودرس في مفتاح العلوم بها، واستفاد من الشيخ المحدث حبيب الرحمن الأعظمي، والشيخ عبد اللطيف النعماني الأعظمي، والشيخ شمس الدين الأعظمي استفادة خاصة، وأقام في دار العلوم بديوبند ثلاث سنوات حيث أخذ صحيح البخاري عن شيخ الإسلام حسين أحمد المدني رحمه الله تعالى، وسائر كتب الحديث المتداولة ممن بها من الشيوخ، والتحق بقسم التخصص في الأدب العربي بدار العلوم لندوة العلماء سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف، وأخذ عن شيخنا محمد الرابع الحسني الندوي، والدكتور عبد الله عباس الندوي، والأستاذ عبد الماجد الندوي، وشيخنا أبي العرفان الندوي. واستدعاه شيخه حبيب الرحمن الأعظمي إلى بيروت ليساعده في تحقيق مصنف عبد الرزاق، ثم سافر منها إلى الحجاز وتركيا وماليزيا، ودرَّس في عدة مدارس حتى انتدب إلى دار العلوم لندوة العلماء سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وألف مدرسًا بها للحديث الشريف.
قرأت عليه صحيح البخاري ما عدا كتاب الإيمان وكتاب العلم قراءة إتقان وتدبر، وكان قد أوتي فصاحة وبيانا في تدريسه، معنيًّا بحل المعضلات المستعصيات، رافعًا للالتباسات والشبهات، ومبرزا لجوانب الصحيح الحديثية والفقهية والإسنادية، في جدة وعمق ونسق منطقي، ووضوح وجلاء، من غير تعقيد أو إبهام، وأهدي إليه ما قاله أبو عبادة:
ومعان كأنها الزهر الضا
حك في رونق الربيع الجديد
حُزْن مستعمل الكلام اختيارا
وتجنبن ظلمة التعقيد
وكنا نشعر بالجهد الجبار الذي يبذله شيخنا الكريم في تقصي الدلائل والشواهد، وتفلية النصوص عباراتها ودلالاتها، والرجوع إلى المصادر والشروح، وإنه لجهد مضن لا يصبر عليه إلا من أوتي حظا وافرا من السعادة ونهامة البحث والتحقيق، ولقد عاشر الشيخ الحديث ولا سيما صحيح البخاري معاشرة طويلة، وأكسبته هذه المعاشرة لونا رائعا أصيلا وتفقها لمقاصد الإمام البخاري، ورقى تدريس كتبه وأبوابه جاعلا لها وثيقة التركيب وسليمة البنيان، وهو في تقريره للدروس لا يصدر عن هوى أو تعصب، بل عن إدراك عميق ودقيق لمعنى الدليل، ويدخل معركة الخلاف بين العلماء بذوق ناضج واطلاع واسع وإنصاف، وكان قد وهب نفسه للعلم، ووقف علمه لتجلية الحق، ولم يكن له شغل غير الدراسة والقراءة والتحصيل والإفادة.
توفي يوم الاثنين خامس عشري جمادى الأولى سنة تسع وأربعمائة وألف عن ثمان وخمسين سنة، وعم ندوة العلماء بوفاته حزن كبير، وصدم الناس كلهم بذلك النبأ الموجع.
وكان عالما مضطلعا من علم الحديث متمكنا منه بارعا، رزينا حليما وقورا، أبي النفس زاهدا مترفعا عن كل ما يزري بالأشراف النبلاء الكرام، طويل الصمت، متواضعا محبا للخمول، وأشركني في بعض أعماله التحقيقية تربية لي وتدريبا على البحث والمراجعة، والفحص والتقصي، وشعرت دائمًا في صحبته كأن بيني وبينه صلة أقوى من صلة النسب، وهي صلة العلم والحديث، وما أزكاها وأطيبها من صلة.
والشيخ المحدث الفقيه محمد زكريا السنبهلي الندوي، ولد في السادس عشر من شهر مارس سنة أربع وأربعين وتسع مائة وألف، وسمع الصحيح على الشيخ فخر الدين، وصحيح مسلم على الشيخ بشير أحمد خان، وسنن الترمذي على الشيخ إبراهيم البلياوي والشيخ فخر الحسن، وسنن أبي داود على الشيخ فخر الحسن، وسنن النسائي على الشيخ عبد الأحد، وسنن ابن ماجه على الشيخ معراج الحق، والموطأ على الشيخ شريف الحسن، ورواية محمد على الشيخ حافظ النعماني من بهرائج، وحضر قراءة الرسائل الثلاث على الشيخ زكريا الكاندهلوي، وتخصص في الأدب العربي في دار العلوم لندوة العلماء. سمعت عليه النصف الثاني من سنن الترمذي، وأجزاء من سنن النسائي وسنن ابن ماجه، وأجاز لي إجازة عامة في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وأربع مائة وألف. وهو أحد شيوخ دار العلوم الغالين على قلوب طلابها، مقصور على العلم والتعليم، يشرح الحديث في أسلوب أبرز خصائصه الوضوح والعفوية والبراءة من التكلف، ويأتي بالجواب الكافي الشافي لكل سؤال عسير واستفسار مستغلق كؤود، وهو نعم المعلم الناصح، ونعم القدوة الفاضل.