بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ما الفقه؟
قلت: هو الفهم الدقيق لهذا الدين في أصوله وفروعه وكلياته وجزئياته معتمدا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتقوى والزهد لازمان له، روي عن مجاهد أنه قال: الفقيه من يخاف الله عز وجل. وأخرج ابن بطة في (إبطال الحيل) عن مطر الوراق، قال: سألت الحسن عن مسألة، فقال فيها، فقلت: يا أبا سعيد، يأبى عليك الفقهاء، فقال الحسن: ثكلتك أمك يا مطر، وهل رأيت بعينيك فقيها قط؟ وقال: أتدري ما الفقيه؟ الفقيه: الورع، الزاهد، المقيم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا يسخر بمن أسفل منه، ولا يهزأ بمن فوقه، ولا يأخذ على علم علَّمه الله إياه حطاما. وهو في اصطلاح المتأخرين: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، كما يطلق على مجموعة هذه الأحكام.
قالوا: متى نشأ الفقه؟
قلت: نشأ الفقه مع نشوء الإسلام، فالإسلام ليس إلا مجموعة من الإيمان والأحكام والأخلاق، نزل بها القرآن الكريم، وبيّنها الرسول صلى اللّه عليه وسلم بسُننه، وبعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه وسلم لما واجه أصحابه قضايا جديدة لم ينص القرآن الكريم والسنّة على أحكامها اجتهدوا بآرائهم للتوصل إلى حلول لها بردّها إلى نصوص الكتاب والسنّة، كذلك فعل التابعون، وأتباعم في عهودهم، ومن مجموعة كل ذلك تكون علم الفقه.
قالوا: من أول من دوّن علم الفقه؟
قلت: أول من هذّب مسائل الفقه وأرسى قواعده وعالج كل باب من أبوابه هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رحمه اللّه تعالى (المتوفى سنة ۱۵۰هـ)، وقام بتدوين فقهه صاحباه الإمام أبو يوسف رحمه اللّه تعالى (المتوفي سنة ۱۸۲هـ) في مختلف كتبه، والإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه اللّه تعالى (المتوفى سنة ۱۸۹هـ) في كتبه المعروفة بكتب ظاهر الرواية، وهي المبسوط، والزيادات، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والسير الصغير، والسير الكبير، وغير كتب ظاهر الرواية. وألف الإمام مالك رحمه اللّه تعالى (المتوفى سنة ۱۷۹هـ) الموطأ، وهو عمدة فقه أهل المدينة، ثم جاء الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه اللّه تعالى (المتوفى سنة ۲۰٤هـ) وأملى كتابه الأم.
قالوا: من تعلمت منه الفقه؟
قلت: من الشيخ حبيب الرحمن السلطانفوري الندوي، والمفتي محمد ظهور الندوي،
قالوا: ترجمهما لنا.
قلت: الأول هو الشيخ العالم النحوي البارع الفقيه الكبير حبيب الرحمن الندوي بن الشيخ العالم عبد الرحمن السلطانفوري، وكان أبوه من خاصة أصحاب حكيم الأمة أشرف علي التهانوي، وكان يدرِّس في مدرسة ببلدة بريلي، فاستوطنها متحولا عن وطنه سلطانفور، وبقي أخوه الأصغر في سلطان فور ساكنا في منزل آبائه.
ولد شيخنا في بريلي ونشأ في بيئة محافظة متوسطة، يغلبها الجد والصرامة، وأثر ذلك في تكوينه الشخصي تأثيرا بالغا، فما كان يعرف شيئا من اللهو واللعب، ولا الاحتكاك بالناس مجتمعا بهم أو آنسا إليهم، وأخذ عن أبيه وغيره من العلماء، ولما توفي أبوه بدأت مرحلة جديدة من حياته، وأخذه نهمه للعلم إلى لكنؤ حيث اتصل بالشيخ محمد أسباط العالم الكبير من أجلة شيوخ دار العلوم لندوة العلماء، ولازمه ملازمة تامة، والتحق بدار العلوم وتخرج فيها.
درّس في دار العلوم لندوة العلماء أكثر من خمسين سنة، وكانت له عناية خاصة بتدريس كتب النحو والفقه الحنفي، وكان يشرح المسائل شرحًا وافيًا في صوت عال ندي، بائنة كلماته وحروفه، فصيح النطق مع ابتسامة تتخلل الشرح والإيضاح، يرد على الأسئلة ردا علميا موجزا إذا كان لها علاقة بالموضوع، وكلما أثار طالب سؤالا من خارج الدرس ابتسم وأعرض قائلا: فُتح الآن باب الفضول واللغو، وكان الطلاب يقبلون منه صنيعه هذا مستمتعين به استمتاعا، ومعجبين به أيما إعجاب.
قرأت عليه الجزء الأول من هداية الفقه للمرغيناني قراء تدبر وإمعان مع شرح وبسط وتفصيل، وخدمته لمدة أشهر، ففرح بي جدا وقربني إليه تقريبا، وكان يبذل لي من وقته الخاص كلما أردت أن أستفهمه المسائل الفقهية العويصة، وقلما حصل ذلك لعامة الطلاب.
تزوج بعد أن بلغ خمسين سنة من عمره، ولا ندري لماذا تأخر في الزواج، وكان سليم البنية وافر القوة والنشاط محتفظًا بخصائص الشباب، وكان مطبوعا على النقاء والصفاء، والنظافة والترتيب، بعيدا عن كل مظهر من مظاهر الحضارة المادية الجديدة، منعزلا عن الناس، ومنفصما عن مجالات الفكر الأخرى، لا يحضر الندوات والاجتماعات، بيد أنه كان مواظبا على تصفح الجرائد والصحف.
توفي في الرابع عشر من رجب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة وألف عن أكثر من ثمانين سنة في سلطانفور، وحضر جنازته عدد من زملائه وتلامذته من دار العلوم لندوة العلماء.
كان شيخا زاهدا متواضعا، صموتا، قليل الاختلاط بالناس، مقبلا على شأنه، ومحافظا على أوقاته بدقة متناهية، غير مضيع لشيء منها، ورأيته كلما ذكر حكيم الأمة التهانوي استعبر وغلبته محبته، وكان قد سعد بزيارته صحبة أبيه، وكان يحب الصالحين مجلا لهم إجلالا، ويحضر مجالس شيخنا أبي الحسن الندوي رحمه الله بعد العصر، وكان متبعا للشريعة والسنة، حريصًا على صلاح الطلبة، وإلزامهم الطريقة الدينية المثلى، وكان من أوفر المدرسين نجاحًا في دروسه وله الأثر البالغ في طلابه، وكم نحتاج إلى معلمين من أمثاله، وما أحسن ما قاله أمير الشعراء في المعلم:
فَـــهـــوَ الَّــــــذي يَــبــنـي الــطِــبـاعَ قَــويــمَـةً
وَهـــــوَ الَّــــذي يَــبـنـي الــنُـفـوسَ عُــــدولا
وَيُــقــيــمُ مَــنــطِــقَ كُـــــلِّ أَعـــــوَجِ مَــنــطِـقٍ
وَيُــــريـــهِ رَأيـــــــاً فـــــــي الأُمــــــورِ أَصـــيـــلا
وَإِذا الـمُـعَـلِّـمُ لَـــم يَــكُـن عَـــدلاً مَــشـى
روحُ الــعَــدالَـةِ فـــــي الــشَــبـابِ ضَــئـيـلا
وَإِذا الــمُــعَـلِّـمُ ســــــاءَ لَـــحـــظَ بَــصــيــرَةٍ
جـــــاءَت عَـــلــى يَـــــدِهِ الـبَـصـائِـرُ حــــولا
والثاني هو الشيخ العالم الكبير الفقيه الجليل المفتي العظيم محمد ظهور الندوي الأعظمي بن عبد الستار بن خان محمد، أحد الأذكياء، ولد سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وألف في مباركفور من أعظمكراه، ودرس الكتب الدراسية إلى شرح الملا جامي على كافية ابن الحاجب في النحو، وشرح التهذيب في المنطق في مدرسة إحياء العلوم بمباركفور، والتحق بدار العلوم لندوة العلماء سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف، وحصل على شهادة العالمية سنة ست وستين، وعلى شهادة الفضيلة سنة تسع وستين، وقرأ هداية الفقه على زوج أخته المفتي محمد سعيد، ومشكاة المصابيح على الشيخ إسحاق السنديلوي، ورياض الصالحين على الشيخ مصطفى البستوي، وشرح التهذيب على شيخنا الفيلسوف أبي العرفان الندوي، والصحيحين على الشاه حليم عطا المحدث، وسنن أبي داود على الشيخ إسحاق السنديلوي، وكتب الأدب العربي على الشيخ محمد ناظم الندوي، ومختارات من أدب العرب، وعلوم القرآن على الشيخ أبي الحسن الندوي، وسنن الترمذي على الشيخ سعيد أحمد، وحجة الله البالغة على الشاه حليم عطا، وتدرب في الإفتاء على الشيخ المفتي محمد سعيد، ولازمه مدة طويلة.
وبدأ التدريس في دار العلوم لندوة العلماء سنة تسع وستين وثلاثمائة وألف، وشغل منصب الإفتاء فيها منذ سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وألف، ونائب مدير دار العلوم منذ سنة أربعمائة وألف، مع توليه مسؤولية قسم البناء والتعمير والإنشاء والتطوير
. قرأت عليه الجزء الثاني من هداية الفقه للمرغيناني، وكتاب الحج من شرح معاني الآثار للطحاوي، والسراجي في الفرائض، وكنت من المقربين إليه ملازمًا له، وقد زرته في بيته في مباركفور، وبت فيها ليلة مع صديقي آفتاب عالم الندوي، وأجازني إجازة عامة في علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه والإفتاء في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وأربع مائة وألف، كتب في الإجازة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فقد قرأ عليّ محمد أكرم الندوي أبوابًا من هداية الفقه، والسراجي، وكتاب الحج من (شرح) معاني الآثار للإمام الطحاوي، وتدرب عليّ في الإفتاء، وقد طلب مني الإجازة فأجزته إجازة عامة في علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه والإرشاد.
توفي قبيل فجر الأحد ثالث عشري ذي الحجة سنة سبع وثلاثين وأربع مائة وألف في دار العلوم لندوة العلماء، وصلى عليه شيخنا السيد محمد الرابع الحسني الندوي، وشهد جنازته جمع كبير جدا لم يشهد بمثله، وعم الناس حزن على موته شديد وأسى كبير، فقد كان فقيه عصره بلا منازع، واتصف في الفتوى بالعمق والاعتدال، وكان حاضر الجواب والدليل، نافذ الحجة عميق النظر، حسن التأني في معاملة الطلاب، ومن أشد الناس اهتماما بشؤونهم، فبادلوه محبة بمحة واحتراما باحترام.