بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ما لك تحثُّنا على دراسة التاريخ وتُحرِّضنا عليها تحريضًا؟
قلت: إن علم التاريخ جَلَل بالغ الخطورة عظيم، يعنى باستعراض العناصر الحركية والعوامل التطويرية في المجتمعات البشرية، ودراسة الأوضاع العمرانية والسياسية والاقتصادية والثقافية على اختلاف الزمان والمكان، ولا غنى لنا نحن العلماء وطلبة العلم عنه، نتعلم به السياق الذي نزل فيه الإسلام، والتغيرات التي شهدتها البلاد الإسلامية، والتحولات التي مرت بها عامة التقاليد البشرية سياسة وثقافة وحضارة، فالتأريخ علم جسيم ذو شأن يهمنا في ديننا ودنيانا، ولا يمكننا إنكار دوره في العلوم والفنون والصناعات والآداب.
قالوا: قد عدَّ بعض الناس التاريخ من مُلَح العلم التي يأوون إليها عند الترويح عن أنفسهم، فما ترى؟
قلت: ذهبوا مذهبا قبيحا وارتكبوا قولا بشعا، وهل ثمة علم لا يقصد من ورائه إلا تحقيق متعة نفسية أو توفير لذة أو قضاء شهوة؟ كيف والعلوم كلها رياضة للعقول والأفكار واستنفاد للقوى والطاقات، لا استرخاء فيها ولا استجمام، وإنما السبيل إليها جهاد مضن وكفاح مرهق، والتاريخ كذلك من العلوم البشرية الاجتماعية الشريفة التي فيها إعمال النظر وجمع للهم.
قالوا: لو لخصت لنا فائدة علم التاريخ؟
قلت: لخصها الفيلسوف الكبير أبو نصر الفارابي تلخيصا بديعا إذ قال: “إن أنفع الأمور التي يسلكها المرءُ في استجلاب علم السياسة وغيره من العلوم أن يتأمل أحوال الناس وأعمالهم ومتصرفاتهم؛ ما شهدها وما غاب عنها مما سمعه وتناهى إليه منها، وأن يمعن النظر فيها، ويميز بين محاسنها ومساوئها، وبين النافع والضار لهم منها، ثم ليجتهد في التمسك بمحاسنها؛ لينال من منافعها مثل ما نالوا، وفي التحرز والاجتناب من مساوئها؛ ليأمن من مضارها ويسلم من غوائلها مثل ما سلموا.” (رسالة في السياسة ص 52).
قالوا: ما للمدارس الإسلامية في آسيا الجنوبية لا تعنى بالتاريخ؟
قلت: وهذا من أهم ينتقد على ما يسمى بالدرس النظامي، فقد هجر كثيرا من العلوم والصناعات الهامة التي يستهجن التفريط فيها وجفاها جفاءً غير حميد، ولقد خَبَرْنا خريجي تلك المدارس يجهلون مسائل عادية وأمورا بسيطة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه وتاريخ الإسلام، وقد حكى لي شيخنا العلامة أبو عمار زاهد الراشدي عن بعضهم أنه لم يدر عن بدر وأحد، أيهما أوَّل.
قالوا: دُلَّنا على أهم مصادر التاريخ الإسلامي:
قلت: هي: القرآن الكريم، وكتب الحديث والمغازي، وكتب الطبقات والأنساب، وكتب الجغرافية، وكتب الرحلات والخطط، والكتب الأدبية والشعر العربي،
قالوا: ما أهم الكتب في التاريخ الإسلامي العام؟
قلت: هي تاريخ الرسل والملوك للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ)، وكتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر، وكتاب التنبيه والإشراف للمسعودي (ت 346هـ)، وتاريخ الإسلام للذهبي (ت 748هـ)، والبداية والنهاية لابن كثير (ت 774هـ).
قلت: وإن كتب التاريخ كثر فيها الخلل والفساد فكونوا منها على حذر متذكرين ما قاله العلامة ابن خلدون: “وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها، وأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والاحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترهات الاحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للاخبار وخليل، والتقليد عريق في الآدميين وسليل، والتطفل على الفنون عريض طويل، ومرعى الجهل بين الانام وخيم وبيل، والحق لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه، والناقل إنما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل. (المقدمة 1/82).
قالوا: فما الكتاب الذي يفيدنا في فهم فلسفة التاريخ؟
قلت: هو مقدمة ابن خلدون (ت 808هـ) بلا نزاع، ثم مقالات العلامة شبلي النعماني والعلامة السيد سليمان الندوي رحمهما الله تعالى في مواضيع مختلفة من التاريخ العام، وتاريخ العلوم والثقافات، وفلسفة التاريخ.
قالوا: فما أهم الكتب في تاريخ العلوم الإسلامية؟
قلت: فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام لأحمد أمين، على مآخذ فيها ومثالب لا أنشط الآن لذكرها.
قالوا: من أخذت عنه التاريخ؟
قلت: عن غير واحد، وأفضلهم لدي شيخنا أبو العرفان الندوي رحمه الله تعالى،
قالوا: أفدنا ترجمته،
قلت: هو الشيخ العالم الفيلسوف الكبير الأديب المؤرخ أبو العرفان الندوي بن الشيخ العالم دين محمد الجونفوري أحد الأذكياء المعدودين، أخذ عن أبيه، وحضر مجالس العالم الرباني الداعية الكبير الشيخ أبي بكر محمد شيث الجونفوري، واستفاد منه كثيرا، ودرس الفلسفة والمنطق على بعض المتخصصين في العلوم العقلية في مدينة إله آباد، والتحق بدار العلوم بديوبند، ثم بدار العلوم لندوة العلماء، وتخرج منها، ومن شيوخه بها: العلامة السيد سليمان الندوي لازمة ملازمة طويلة واختص به اختصاصا، وقرأ كثيرًا، وخاض في كتب الفلاسفة والمتكلمين، وأولع بكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية، وحكيم الإسلام الشاه ولي الله الدهلوي.
درَّس في دار العلوم لندوة العلماء مدة طويلة وعمل كذلك نائب مدير ومديرا لها، وعرف بتدريسه لكتاب حجة الله البالغة، ولعل المدة التي قضاها في دار العلوم في التدريس والإدارة تبلغ خمسًا وأربعين سنة، وفاق أقرانه في آداب اللغة الأردية والفارسية والعربية، والتاريخ، والفلسفة، وعلم الكلام، ومذاهب السلف، ومقالات الفرق والديانات مع ذاكرة قوية، وحفظ لكثير من المتون والأشعار باللغات المختلفة، ووفرة المعلومات، وتوسع الثقافات، وذكاء نادر، وقدرة على الكلام في فصاحة منقطعة النظير، وكان يمثل ندوة العلماء في المجامع العلمية والندوات الكبرى، ولم يكن له نظير في الهند في الاطلاع على تاريخ العلوم الإسلامية، وطبقات العلماء، ومناهج التعليم، ونقل كتاب الثقافة الإسلامية في الهند للعلامة عبد الحي الحسني إلى اللغة الأردية.
توفي في السابع من ربيع الثاني سنة تسع وأربعمائة وألف عن خمس وستين سنة، وكنت ممن تبع جنازته من لكنؤ إلى جونفور حيث صلي عليه ودفن، وشهد الجنازة جمع كبير من لكنؤ وجونفور وغيرهما من البلدان، وأثرت وفاته في تأثرا كبيرا، وكاد خوف الموت يقتلني، ولم أكد أنام في الليل إلا قليلا.
أخذت عنه البلاغة الواضحة، وأشياء في المنطق والفلسفة، والجزء الأول من تفسير البيضاوي، وتاريخ العلوم الإسلامية، واستفدت كثيرًا من مجالسه.
قالوا: ما منهجه في التدريس؟
قلت: كان يحفظ علمه عن ظهر قلبه متحكما فيه ومتقنا إياه إتقانا، فلم يدرسنا المنطق والفلسفة وتاريخ العلوم الإسلامية من كتاب أو مذكرة، بل كان يملي كل ذلك إملاء في ضبط للمعلومات والحوادث والتاريخ، وكان حسن الاستنباط والاستنتاج مع قدرة غريبة في ربط النتائج بأسبابها والكائنات بعللها.
قالوا: هل خصك بشيء من العناية وهو بلديك؟
قلت: لا أراني خصني بشيء، وقد استفدت منه في أشياء خارج الدروس النظامية، ونقلت رسالة للشاه ولي الله الدهلوي من الفارسية إلى العربية في أصول الدراسة والتعليم، فراجعها لي، وأصلح ما فيها من الأخطاء، وقد كان اهتمامه بتلاميذه كلهم سواء، ولعل لزميلنا محمد حشمت الله الندوي صلة به أقوى فقد كان مجاورا له في السكن، بل لعل أقربهم إليه زميلنا وصديقنا الأثير الحبيب محمد عبد الحي الندوي، فقد كان يملي عليه مقالاته الطويلة التي يريد تقديمها في المؤتمرات والندوات العلمية، فكان يقيدها بخطه الحسن، ويحفظها له حفظا.
قالوا: اذكر لنا من صلاحه وأخلاقه،
قلت: لم نعب عليه إلا تهاونه بالصلاة، غفر الله له ورحمه، ولعل ذلك من تأثير الفلسفة فيه، غير أنه كان مأمونا سليم دواعي الصدر، غير حاسد ولا حاقد، وكان سمحا دمث الخلق، محببا إلى زملائه وإلى الطلاب، طيب الشمائل.
وكان مديرا لمطبخ دار العلوم، أكولا، عاشقا للطعام الشهي ومستكثرا منه، وذلك الذي أفسد صحته، وأورث فيه داء السكري ونوبات قلبية، ومع ذلك كان صاحب مجلس ودعابة ونكت ونوادر،
قالوا: اذكر لنا من نوادره،
قلت: هي كثيرة، وأتذكر أنه كان في مجلس شيخنا أبي الحسن الندوي رحمه الله، وقدم إلى الحضور شراب لذيذ، فتناول شيخنا أبو العرفان كأسين منه، واقتصر غيره على كأس واحدة، فقال بعض الحضور غامزا إياه: أخذ كل واحد كأسا، وأخذت اثنتين، فقال: للذكر مثل حظ الأنثيين.