من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: عبادته

Reading Time: 5 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: قد بيَّنْت لنا في مقال سابق من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم إدراكه لحده واعدًا إتحافنا بمقالات تتلوها مقالات تعرض من نعوته وخصائصه ما يزيدنا أنسًا به وحبًّا له وسعيًا في التأسي به واقتفاء أثرِه وسيرِ سِيَره.

قلت: نِعم ما ذكَّرتموني به مسعدًا إياي أيَّما إسعاد، وسأتحدث إليكم اليوم عن حسن عبادته وروعتها وسموها،

قالوا: كأنك تكشف عن حجب الضمائر وتطِّلع على ما في الصدور، فما أشدنا شوقا وحنينا إلى معرفة سننه صلى الله عليه وسلم في عبادة مولاه، فياليتك دللتنا أولا على سر العبادة وقيمتها والمعاني النبيلة الكامنة فيها، فتُيَسِّر لنا سبيلها ونقوى عليها كما قوي عليها غيرنا.

قلت: العبادة أشرف ما أوتيه الخلق، ولا شرف لهم يعادلها أو يساويها، فهي التوجه والانقطاع إلى المطلوب المقصود المحبوب الذي تصدر منه جميع البركات والخيرات والمنافع واللذات والنعم، وإن الله تعالى رحم الناس فنهاهم عن الانصراف إلى خلق مثلهم فقرا وذلا وعجزا، وهداهم إلى معرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له، فبالتوجه إليه تستغني ذواتُهم، وبذكره تطمئن قلوبُهم، وبالتفكر في صفاته تسمو نفوسهم، وبتسبيحه تصفو لذَّاتهم، وبحمده يستدِرُّون شآبيب نعمه، وبرؤيته في الآخرة تقرُّ عيونهم، وليس في الأرض ولا في السماء ما يسكن العبد إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه، وإن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا ليس له نظير فيقاس به، وهو فقر أشد من فقر الجسد إلى الطعام والشراب، وإن التذاذ العبد وتنعمه بالعبادة أشد من التذاذه وتنعمه بالنكاح وسائر المتع والشهوات.

قالوا: لقد أرشدتنا إلى معان سامية قرَّبَتْ إلينا العبادة أثيرةً حبيبةً، فصِف لنا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في كلمات موجزة جامعة.

قلت: ما أحسنه صلى الله عليه وسلم عبادةً لربه وما أجمله، وأراني مفتونا بحسن عبادته خالصا له هواي، ومصطفاة له مودتي، فوالله ما أشد حبي لهذا الرسول المجتبى أراه مصبحا ممسيا في شمائله فأزداد بها فتنة، ومن لي بمثل سيره الأمثل ونهجه الأعدل، بأبي ذاك النبي المختار الحبيب وأمي، ما ألذ وأحلى ذكره العذب من لساني وريقي، وسأجيب عن سؤلكم في أربع نقاط فاسمعوها وعوها إن كنتم لحسن الحديث واعين ولجميل الذكر مستطيبين: الأولى فقره إلى عبادة ربه وفزعه إليها، وجِدُّه فيها ومداومته عليها، وهذا الفقر الطبيعي القاسي والقسر الفطري الموجع هو الذي عزله عن الناس منزويا عنهم قبل نبوته وأقصاه عن أحب الخلق إليه زوجته وبناته منفصلا عنهن إلى غار خال مظلم، وهو في شوق شديد وتطلع غير مسبوق إلى أن يعرف كيف يعبد ربه مخبتا إليه منيبا، فلما رحمه مولاه وأنعم عليه بالمعرفة التي لايضاهيها شيء ولا يبلغها طموح الطامحين أو أماني المتمنين وأحلام الحالمين انقطع إلى عبادته ملتذا به ومتنعما، وجدَّ فيها واجتهد مداوما عليها مواظبا إلى أن لقي الرفيق الأعلى، وبذلك أبرز لأصحابه وسائر المسلمين أن علاقته بالله تعالى كعلاقتهم بالله تعالى خضوعا له واستسلاما وذلا وعبودية وإنابة وإخباتا، وحماهم من تعظيمه المبالغ فيه، أو عبادته بدل عبادة الله أو مع عبادة الله. الثانية أنه ليس هنالك عدل أو قرين للنبي صلى الله عليه وسلم في حسن عبادته، له في الأرض أهل وأصحاب وإخوان، وما له فيها من مُشاكل ومشابه، وإن الغريب الفرد من عدم الشبه والشكل، كان أصحابه يداخلهم الحزن والأسى أن تفوتهم الصلاة أو الجماعة مغتمين متحسرين، بينما كان هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض لصلاته ما يصرفه عن خشوعه وقنوته في الصلاة، أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه، قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صمسله : أميطي عني فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي، وكان إذا قام كشف بكاؤه وأزيز صدره عن سره المكتوم وولهه البالغ، فعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وكانت هود وأخواتها من مبين الفرقان قد شيبته تشييبا. إن حسن خشوعه في الصلاة مقتبس من كمال معرفته بالله تعالى، وخوفه منه ورجائه إياه، أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا، وكان اعتصامه بحبل الله أحظى لديه وأرجى من الأمن عند الخائف الوجل والفزع المستجير. الثالثة أن الله وعده بمغفرته ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك كان يبذل ساعات طويلة في قيام الليل تائبا إليه مستغفرا، ومستعطفا مسترحما، وإياكم أن تظنوا أنه لم يؤمن بوعد الله تعالى، وإنما أطال صلاته وتجشم المشاق في العبادة أنه لم تحدثه نفسه أن يترفع أو يتعلى بين يدي الله تعالى، فهو عبد شديد الولاء لمولاه، نبيل في غاية النبل شاكرا لأنعمه ومعترفا بفضله وإحسانه، أخرج الشيخان وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أكون عبدًا شكورًا، وأخرج الشيخان وغيرهما مثله عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فانظروا إلى وعيه لنعم الله تعالى والتي لو تصدى لشكرها لسان أفصح الخلق لاعتراه نكول وإعياء، ولو أن أجلد الناس وأصبرهم قابل مغفرته وعفوه بعمله وجهده لعجز عجزا باديا متعبا منهوكا، وهل يجزي الكثيرَ قليل؟ ومن يقدر على شكر ذلك المنعم الذي شكرنا له وحمدنا من أفضال نعمه؟ ولو أننا مُلِّكنا ألسنة من قروننا إلى أقدامنا تبث شكره بثا لما وفينا لما أولاه من حسن ولا نهضنا بما حمَّلنا من نعم. الرابعة أن عبادة أغلب الناس في معظم أوقاتهم عادية وشطر من هويتهم وناشئة من شعورهم بالانتماء إلى مذهب من المذاهب أو حزب من الأحزاب أو شعب من الشعوب، وهل يرتاب مرتاب في أن ذلك ليس المرمى المستقيم أو الغرض الرفيع للعبادة، وإنما الهدف الحق الأعلى للعبادات كلها هو ذكر الآخرة، والاستعداد ليوم يقوم الناس فيه لرب العالمين فيحكم فيه بين العباد، وكل عمل ابتغي من ورائه الفوز في الحياة الآخرة وحدها، فهو العمل الصالح في نفسه، وهو الذي يرضي الله، وما أكبره مفارقة لعمل من يقصد أن يرضي الناس أو يكسب حسنة من حسنات الدنيا أو منفعة من منافعها، فالنظر إلى الآخرة يقوِّم العمل ويرفعه ويطهره من الشوائب والمكدرات، ويكسب مغفرة ورحمة، وتجلت هذه الصفة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر عباداته تجليا، وهو القائل صلى الله عليه وسلم كما أخرج مسلم وغيره: “والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع”. وأخرج الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استحيوا من الله حق الحياء. قلنا: يا رسول الله إنا لنستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس، وما وعى، وتحفظ البطن، وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا. يعني: من الله حق الحياء.

قالوا: أوصنا.

قلت: أوصيكم ونفسي باتباع هذا النبي في عبادته، فما عبد الله أحد مثل عبادته، وما نال نائل مكسبا أو ارتقى مرتق مراما إلا والعبادة أفضل منه وأعلى وأسمى، وأفضل العبادة عبادة النبي صلى الله عليه وسلم مُحبَّبة إلى كافة الخلق غُرَّتها، وكأنما من القلوب والأفئدة نُقْرتها.