منهج ابن تيمية في معرفة الحقائق

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: كتبت مقالك عن ابن تيمية فشك بعض الناس في نيتك ورموك بتهم وقذفوك بأبشع الأقوال وظنوا بك الظنون، فمالك لا ترد عليهم مدافعا عن نفسك؟

قلت: وهل ترونني يهمني أن أدافع عن نفسي؟ حسبي يوسف عليه السلام أسوة إذ قال: لا أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء، وأخشى أن أبرئ نفسي وأزيل التهم عنها وأزكيها وأنا عند ربي كاذب.

قالوا: من الناس من نسب ذلك القول إلى امرأة العزيز، لا إلى يوسف عليه السلام،

قلت: دعوني ممن لا يحسن فقه كتاب الله تعالى، وهو قول يستحيل خروجه من أمثال هذه المرأة.

قالوا: سألناك في مقالك السابق أن تذكّرنا بمنهج ابن تيمية في معرفة الحقائق والاستدلال عليها فوعدتنا بإفراد مقال عنه، فأوف بعهدك، إن العهد كان مسؤولا،

قلت: ليس منهجه بدعا من الأمر أو شيئا محدثا مخترعا، إنما هو منهج الكتب السماوية، ومنهج رسل الله وأنبيائه، ومنهج الصحابة والتابعين وسائر الأئمة المحققين.

قالوا: فأي مذهب من مذاهب العقيدة والكلام ترى ابن تيمية اتبعه؟

قلت: سما ابن تيمية أن ينتمي إلى مدرسة من المدارس العقائدية والكلامية، وما ناقش المسائل التي تتباهى بها الفرق والطوائف إلا ليرد عليها ويكشف القناع عن زيغها وانحرافها ويحرر عباد الله من أن تستعبد عقولهم وتسترق ألبابهم وتفسد قلوبهم وتلوث فطرهم تلويثا.

قالوا: فما دليله على تنكب العقيدة والكلام؟

قلت: إن أقوى أدلته على ذلك القرآن الكريم، فإنه ليس كتابا عقائديا ولا كلاميا، ولكنه كتاب هدى أنزله الله تعالى ليُتَّبع ويعمل به، لا ليُلفظ به وتحاك حوله المناظرات والمجادلات، وتستثار في نصوصه البينات الواضحات الشكوك والشبهات.

قالوا: كيف يدخل الإنسان الجنة إن لم يتبع عقيدة ولا كلاما؟

قلت: كما يدخلها الأنبياء والصحابة وسائر الصالحين، فلن يثاب المرء الجنة بمجرد التلفظ بعقيدة أو الانتماء إلى مذهب كلامي، إنما يثاب الجنة بالإيمان الذي يحققه عمل صحيح صالح مقرونا بنطق أمين وإرادة صادقة، ولم يكلف الله أحدا بالقيام بما فرض عليه إلا في حدود بشريته التي يلازمها نقصان في النطق والإيمان والإرادة والعمل.

قالوا: كأنك تنفرنا من الفهم البشري،

قلت: لا، إن إعمال العقل والفهم في كل شيء واجب محتوم، ولكن لا تنسوا حدودكم، فلا تملكون فهما كاملا معصوما، ولا قدرة تامة سليمة لتبتدعوا الهدى، فاتبعوا محكم ما أنزل إليكم من ربكم متبعين له، ولا تتبعوا المتشابهات اتباع الذين في قلوبهم زيغ، ولكن آمنوا بها وقولوا: كل من عند ربنا، وما يتذكر إلا أولو الألباب.

قالوا: ألا ترى أن الناس يحتاجون إلى أصول ومذاهب تضبطهم ضبطا، فإن لم يكن هناك مذهب فسيتعرضون للفوضى في الفكر والسلوك.

قلت: أنتم من أبعد الناس عن فهم ما سعيت بيانه منذ اليوم. إن منهج ابن تيمية أن الاستعدادات التي أودعها الله بني آدم تكفيهم في الهداية، وإن تقوى الله تعصمهم من الضلال والغي، وقد يتأثر الإنسان بهوى نفسه وجاهلية مجتمعه وانحرافاته وأدرانه، فيحتاج إلى من يطهره منها ويحميه من الوقوع في الزلل والخطل، ومن ثم يركز القرآن الكريم على تصحيح الأخطاء، وهذا ما يفعله ابن تيمية اتباعا لكتاب الله تعالى، يحرر مقلِّدي الفرق والطوائف من أغلالهم وقيودهم الفكرية والنظرية، ليستعملوا صلاحياتهم، ويتدبروا كتاب الله تعالى، ويصححوا الخطأ في مسارهم.

قالوا: ألا ترى أن هذا يؤدي إلى اختلاف بين المسلمين؟

قلت: بلى، وهو اختلاف حسن رحمة من ربهم، لا ريب أن هذا الموقف يسمح بالاختلاف في صفات المؤمنين والمسلمين العاملين بأوامر الله، ولكن يجنِّبهم التفرق والانشقاق والتعادي، بل إنه يشجعهم على تسامح بينهم واحترام بعضهم لبعض، معتمدين على ما وعدهم الله من مغفرة من عنده ورضوان، مستقيمين صابرين ومحسنين.

قالوا: من الناس من يتقول على ابن تيمية غير ما وصفته به.

قلت: أخطأوا، فإن هذا الموقف هو موقفه الثابت طول حياته وفي أعماله كلها، فلم يضع عقله كتابا في العقيدة يكون شعارا لإسلامه لربه، ولكنه شرح في كتبه أن الله خلق الناس وقد أودعهم الفطرة السليمة التي تلجئهم إلى الاهتداء إلى العبادة، وهذه الفطرة مستمرة، وأنعم عليهم بالحواس وهي مصادر العلم، وبالعقل الذي يمحص لهم العلم الصحيح، والقلب الذي يستسلم للعلم الصحيح، والإرادة التي تربطهم بالعمل وتوصلهم إليها إيصالا، وبين هذه الأمور بيانا لا غموض فيه.

قالوا: فما له يجادل المتكلمين والفلاسفة جدالا لا هوادة فيه؟

قلت: ليريهم ضلالاتهم وغواياتهم وأخطاءهم وأوهامهم، وليصرف الناس عن الاعتماد على الطرق المصطنعة، ويوجههم إلى استشعار ملكاتهم وتوظيفها توظيفا صحيحا.

قالوا: ما الهدف من تأليفه للعقيدة الواسطية وغيرها من كتب العقائد؟

قلت: هو ما قلتُ، ليس هدفه تأسيس مذهب عقدي أو كلامي، وإنما غرضه تقرير منهج السلف، وتصحيح الانحرافات الفكرية في مذاهب الخلف.

قالوا: قد اختطف السلفيون اسم ابن تيمية اختطافا كأنه إمامهم منفردين به دون سائر الناس؟

قلت: السلفية مذهب من المذاهب البشرية كالأشعرية والماتريدية، وهم على غرار أتباع المذاهب الأخرى، فالحنفية استأثروا بأبي حنيفة، والمالكية بمالك، والشافعية بالشافعي، والحنابلة بأحمد بن حنبل، وليس أبو حنيفة حنفيا، ولا مالك مالكيا، ولا الشافعي، شافعيا، ولا أحمد حنبليا، ولا ابن تيمية سلفيا، بل هم جميعا، ومعهم سفيان الثوري والأوزاعي والليث وأبو ثور وابن حزم وجمع كبير، أئمة الهدى وأمثلة الناس في البصيرة والتقوى، يتشارك المسلمون كافة في موالاتهم ومحبتهم واتباعهم والتأسي بأسوتهم.

قالوا: فتحتَ بابا عظيما للضلال والزندقة بطعنك في المذاهب العقدية،

قلت: هل ترون أن المذاهب والأصول البشرية تمنع الناس من الضلال؟ أليس ثمة زنادقة، ومنافقون، وفساق، بين أتباع المذاهب؟ الذي يمنع الناس من الضلال هو تقوى الله ومجاهدتهم في سبيله للتوصل إلى الصدق ثم العمل به، فإذا فعلوا ذلك فقد ضمن لهم ربهم الهدى، يقول: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا.

قالوا: لو عزَّزت كلامك بنصوص ابن تيمية!

قلت: قد دعمت منهجه بنصوص كثيرة من كتبه في شرحي لمقدمته في أصول التفسير، واستثقلت إعادتها هنا، فانتظروا لصدور الكتاب يشفكم إن شاء الله شفاء، ويف بالمطلوب وفاء.

قالوا: فما تأمرنا؟

قلت: اعلموا أن فلاحكم إنما هو في الإيمان والعمل، فاستشعروا فطرتكم، واستخدموا حواسكم وعقولكم وأفكاركم، واتقوا ربكم، وتدبروا كتابه، واتبعوا سنة نبيه تهتدوا، وإياكم إياكم والمذاهب البشرية والأصول الوضعية، فلعلها تجعل الناس يعجبون بعلمكم وجدلكم وقوتكم على المماراة وتكفير الناس وتبديعهم وتفسيقهم، ولكنها لن تقربكم إلى ربكم زلفى، فلا تُرضوا الناس، وأرضوا ربكم الذي خلقكم، وهو الغفور الودود.