بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم أنت المتجلِّي في الأرض والسماوات العلى، وما بينها من آيات بينات وحجج لا تخفى، وبك ضياء الشمس الزهراء، ودوران القمر أهلة وبدورا غراء، وسبح النجوم والكواكب السطعاء، وفيضك الساري في البحار والأنهار، تتغنى بمجدك الزهور والأشجار والثمار، وأمرك النافذ في الكون ما ظهر منه وما بطن، وما تحرك فيه وما سكن، جعلت الأرض مهادا، والجبال لها أوتادا، وأنزلت من المعصرات ماء ثجاجا، تخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا، زينتها بألوان زاهية ناضرة، ووشيتها بنقوش بهية باهرة، تحمدك اللياليى والظلمات، وما حبوتها من هدأة وثوران، واستسلام وعصيان، ويمجدك الصبح المتولد من غياهب الظلام، وسخرت الرياح عاصفات وناشطات، تجري بالمزن والسحائب المثقلات، أحييت بها الأرض بعد موتها، وبعثت بها حسن الدنيا وجِدَّتها، فأصبحت كالرياض الخضرة والجنان النضرة، وملأت بها العالم شذى ونفحات عطرة، وعائدات المعروف منك إلينا متوالية متواترة، هذه توافي وتلك منتظرة.
أتأمل آلاءك ونعمك فأتهلل بشرا وأطرب طربا، وأتدبرها وأتقصاها فأسمو بصيرة وأزداد معرفة ويقينا، تذكِّرني أنفاسي بك، وتقرِّبني حركاتي وسكناتي إليك تقريبا، كيف تتقلب الأفئدة والقلوب؟ وكيف تحار الألباب والعقول؟ وكيف تجري الدماء في العروق؟ أسئلة أستثيرها فأغرق دهشة واستعجابا في بحار علمك وقدرتك، وأرى فضلك في كل لحظة من لحظاتي، وما حياتي إلا عبارة عن عطائك، ولا اعتماد لها إلا على سخائك، أنا معترف بكرمك وجودك وعظم نوالك، وليس منك إلا دوام حب وموالاة، ولا عدو لي إلا نفسي ذات الشرور والطغيان.
لما ولدت كان اسمك حياة لسمعي، ولما أدركت الوعي والعقل كان اسمك ورد لساني، ولما بلغت الشباب والرشد كنت أنت قوتي وأزري، وحين أموت فسيكون اسمك حلاوة لي في عيش خالد واستمتاع دائم، لم أجد راحة ولا لذة ولا ابتهاجا ولا وجدانا إلا باسمك، إن اسمك ينفخ السكينة في قلبي وروحي، والنشاط في كل ما حولي، وقد قامت الأرض والسموات باسمك، أُثني على غيرك فأكذب، ومن الثناء تكذُّب وتخرُّص، وأثني عليك فأصدق، فالثناء عليك كله صدق وحق، ينقص القمر المنير إذا استوى، وبهاء تمجيدك وتعظيمك لا ينقص أبدا.
أنا الفاني والخلق كله سيفنى، وأنت الباقي، ولا بقاء لغيرك، فما أرى من ألوان ستتبدد، وما أشم من روائح ستتناثر، وما أشاهد من حسن وجمال سيصير حلما زائلا، إن هذه الدنيا آفلة وآفل ما فيها، وما الحياة فيها إلا متاع قليل، ولا تنقضي شهوة إلا تولدت أمثالها، ولا نجاة لي إلا ذكرك، مهما رغبت في تهدئة نفسي أو ترويحها فاسمك دواء لأدوائي وشفاء لحاجاتي.
أعجب بنفسي مغرورا بها غير ناه لها عن صباها، فتُبصِّرني رحمة منك بعيوبي، فترتد إلى صوابها، ويتحكم في الفخر والكبر، فتبلوني بضعفي فتكسره، ثم تجبر كسري بلطفك كما ارفض غيث من تهامة في نجد، وتأخذني الغفلة متماديا لجاجها مضيعا رشدي راضيا بهزلي، فتهيج فيَّ الخوف وتذكِّرني الموت والبلى، فأخرج من لهوي وسلواني، وأؤوب إلى جِدِّي ورشدي، ويغلبني اليأس وأرى الدهر كربة لا انجلاء لها، وضيقة لا انفراج لها، لا تتقضى همومي، ولا يغلق علي رتاجها، فتأتيني بالرجاء، ولا أمل لي إلا وبك طريقه.
أطلب الشيء من نحو وجهه فلا أظفر به، وأثوب إليك فأرجو الشيء من حيث لا يرجى، وما مارست حاجة عندك على نكد الأيام إلا هان علاجها، أعصيك فتحلُم، ولم أر مثلك في حلمك الوافي وفي نائلك الغمر، فيداك تجودان بما لا تأمل النفس، وما في جودك منٌّ، ولا في بذلك حبس، وشهيداي على ما قلت فيك الجن والإنس، إن إحسانك لي يجدد دولتي، ويزيد في جاهي وفي قدري، رب اجعلني اطلب الكفاف بعفة في مكسبه، وأرضى بقسمك متجملا في طلبه، ففي كل يوم منك منة لا يفي ببعضها حمدي ولا شكري.
نهاري مخيف، وليلتي سوداء حالكة، ولا أجد ملاذا من مصائب الحياة، وقد ذهب عني كل آمالي، ربي ليس لي إلا المعاصي والذنوب، والآثام والفجور، ولا قيمة لي في سوق الحياة، ولا أتطلع إلا إلى كرم منك، لا أجد عذرا لأخطائي وزلاتي، ولا حيلة لي أتمسك بها، ولا وسيلة لي إلا أنت، اللهم إني نادم ندامة، أتظاهر بهدوء، وباطني يأسره قلق، وليس منك إلا العفو والمغفرة، والصفح والرحمة، فتجاوز عني، ورُدَّ إلي ربيع حياتي، والطمأنينة إلى قلبي، وألحِق النعمى بنعمى فإنه يزين اللالي في النظام ازدواجها.
عرّج علي ربي وأنعم وأحسن إلي إحسانا، إن عيشى يسمج حين أستغني عنك، وإذا عدت إليك فلا تسمبج فيه، إن حبك صرف لا مزاج له، وحب الخلق ممزوج، ما ضرني إبطاء نعمة عني ولي رب لا راد لفضله ولا صاد لرحمته، إن الناس قد أغروا بلا ونسوا نعم، وأنت فرجاؤنا وأملنا إذا خاب الرجاء وكذب الأمل، اللهم إني سائل مسترفد، وأنت الكريم الذي لا تنهر سائلا، ولا ترد مسترفدا خائبا، يا من يعطي قبل سؤال، ويرحم قبل استرحام، وتجيء مواهبه قبل المواعيد، اغفر لي واعف عني وارحمني، عذب عفوك وطابا، حبذا العفو منك مآبا.