بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ما معنى القراءة والسماع؟
قلت: القراءة العلم بواسطة القراءة، والسماع العلم بواسطة السماع، كما أن الرؤية العلم من طريق البصر، والشم: العلم الحاصل من الشم، واللمس: العلم الحاصل من اللمس، والذوق: العلم الحاصل من الذوق، فإذا ذقت الطعام وعلمت مذاقه قلت: ذقته، وإذا حصل لك مرض في اللسان أو كنت مريضًا، ونبا لسانك عن الذوق، لا تقول: ذقت، كذلك القول في الحواس كلها، فإنها مصادر العلم ووسائل إليه.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن القراءة والسماع وسيلتان جليلتان مؤديتان إلى العلم، لا يراد بهما إذا أطلقا أمر دونه، فإذا قلت: قرأت سورة البقرة، فمعنى ذلك لدى السامع قراءتها فهما وعلما، وإذا قلت: قرأت صحيح البخاري، فمعنى ذلك قرأته وفهمته وعلمته.
قالوا: هل يختص هذا المعنى باللغة العربية؟ أم يعم اللغات كلها؟
قلت: يعم اللغات كلها، فإذا سألك أحد: هل قرأت النحو أو الصرف أو الشعر؟ فمعنى ذلك هو قراءة كل واحد من هذه المواضيع فهما وعلما، إذا سألك أحد: ألم تقرأ شعر إقبال أو الرومي أو المتنبي؟ فمعنى ذلك هو قراءته فهما. كذلك إذا قالت لك أمك: ألم تسمعني؟ فمعنى ذلك سماع مقرون بالفهم والعلم.
قالوا: ما معناهما في القرآن الكريم؟
قلت: هو ما ذكرتُ، ولم يرِدا في القرآن الكريم إلا في ذلك المعنى، قال تعالى: “وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا، وجعلنا علىٰ قلوبهم أكنةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا، وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا علىٰ أدبارهم نفورًا. (سورة الإسراء 45-46)، وقال: “ولو نزلناه علىٰ بعض الأعجمين، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين، كذٰلك سلكناه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به حتىٰ يروا العذاب الأليم، فيأتيهم بغتةً وهم لا يشعرون. (سورة الشعراء 198-202)، وقال: “وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتىٰ يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه، ذٰلك بأنهم قومٌ لا يعلمون” (سورة التوبة 6)، والآيات في ذلك كثيرة جدا.
قالوا: ما معناهما في كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟
قلت: لا يختلف عن معناهما في كتاب الله تعالى، أخرج البخاري عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه”، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة”، وأخرج مسلم أيضًا عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة”.
قالوا: فما المعنى الذي تنكره؟
قلت: أن يطلق القراءة والسماع ويسلبا العلم، ويقلصا إلى قراءة باللسان من دون فهم ولا علم، وسماع بالأذن من دون فهم ولا علم. قالوا: هذا اصطلاح جديد، ولا مشاحة في الاصطلاحات. قلت: أصبتم، وإنما أطعن في أن يحمل القراءة والسماع ومشتقاتهما الواردة في كتاب الله والحديث النبوي الشريف على المعنى الحادث.
قالوا: فما تقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف”؟ وهذه حروف مقطعات لا يعرف معناها، فالثواب حاصل من قراءة ليس وراءها علم.
قلت: هو حديث أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلىوسلمء : “من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف”. قال الترمذي: ويروى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن مسعود، ورواه أبو الأحوص عن ابن مسعود، رفعه بعضهم ووقفه بعضهم عن ابن مسعود، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
قلت: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بل وعامة العرب يعرفون معاني هذه الحروف، ولو لم تعرف العرب معناها لقالوا: هو لسان غير عربي، ولاتخذوا وجود هذه الحروف في التنزيل ذريعة للطعن فيه، وقد استعملت العرب هذه الحروف في كلامها، ومن ثم حاول العلماء في كل عصر بيان معناها.
قالوا: فما هي القراءة الكاملة؟
قلت: هي قراءة كتاب الله في الصلاة فهما وتدبرا واتباعا، وكذلك قراءة الحديث معناها فهم معناه واتباعه، والسماع هو سماع فهم وقبول، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “أصل السماع الذي أمر الله به هو سماع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم سماع فقه وقبول، ولهذا انقسم الناس فيه أربعة أصناف: صنف معرض ممتنع عن سماعه، وصنف سمع الصوت ولم يفقه المعنى، وصنف فقهه ولكنه لم يقبله، والرابع الذي سمعه سماع فقه وقبول. (الفتاوى 16/8)
وقال: والصنف الرابع الذين سمعوا سماع فقه وقبول فهذا هو السماع المأمور به كما قال تعالى: “وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق”، وقال تعالى: “قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا”، وقال تعالى”: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين، قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به. الآيات. وقال تعالى: “إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا، ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ” الآية: وقال تعالى: “إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا”، وقال تعالى: “وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون”، وقال تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا، وكذلك قوله: “قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى”، ومثله قوله: “هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين”، فالبيان يعم كل من فقهه والهدى والموعظة للمتقين. وقوله: “هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون”، وقوله: “الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين”. (الفتاوى 16/13)