معنى الدراسة

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: قد التبس علينا أمر، وأنت معلّمنا، فاكشف لنا غمته، وبيّن لنا وجه الصواب فيه.

قلت: لم آل جهدا في استجلاء الحق والبيان، وإزاحة الستار عن الصدق ورفع اللثام، فما الذي أشكل عليكم، وتفلَّت منكم زمامه؟

قالوا: نعيش عهدا متطورا وزمنا متقدما، أصبحت فيه الأمور كلها ميسورة، والطرق معبَّدة، فالعلوم قريبة المنال، والفنون والآداب في متناول الأيدي والأبصار، وعلى مرمى من العقول والأفكار، إذا أردنا أن نقف على تاريخ بلد، أو مناخ منطقة، أو طبيعة من الطبائع، أو نظرية من نظريات الطب والعلوم شاهدنا برنامجا من برامج التلفزيون يقتضب لنا المعلومات اقتضابا في لغة بسيطة ممتعة وأسلوب سهل جذاب، وكذلك نلتقط العلم والأدب عبر الشبكة العنكبوتية واليوتيوب والرسائل القصيرة في الواتساب.

قالوا: ونراك قد جعلتَ السهل حزْنا، والذَّلول صعبا، تستحثنا على أن نحتذي حذو الأئمة المتقدمين والعلماء المحققين الذين جمعوا بين التوسع في العلم والتعمق فيه وبين العمل والتقوى، وتسرد لنا قصصهم التي تبعثنا على العجب في قراءاتهم وسماعاتهم ورحلاتهم المضنية وتحملهم المشاق في سبيل العلم، وإنتاجهم لهذه الأوقار والأحمال الكثيرة من الكتب النافعة التي تفوق الوصف والبيان، وحكيتَ لنا عن نفسك أنك درست – مع ما أخذته من شيوخك في ندوة العلماء – من مؤلفات ابن حزم، وابن سينا، وابن الجوزي، والمزي، وابن تيمية، والذهبي، وابن خلدون، وابن حجر، ومن مؤلفات المعاصرين: شبلي النعماني، وحميد الدين الفراهي، ورشيد رضا، والسيد سليمان الندوي، وأبي الكلام آزاد، وعبد الماجد الدريابادي، والمنفلوطي، والرافعي، والسباعي، وطه حسين، وأحمد أمين، والمودودي، وأبي الحسن الندوي، وسيد قطب، والقرضاوي، والكتاب الغربيين، وغيرهم، فأنَّى لنا أن نطالع حتى بعضها، وقد تشتت بالنا، وتفرق همنا، وتقلص زماننا، ونزعت البركة من حياتنا؟

قلت: لا ألتذُّ بتكليفكم ما لا يطاق، ولا أستمتع برميكم النوى والمشاق، ولو عرفتُ طريقا ممهدا أو أمرا سهلا يحقق غرضكم ويقرِّب لكم البعيد لدللتكم عليه، فإني أحرص ما أكون على النصح لكم في صدق وأمانة، ولكن الأمر – كما ذكرتم – قد لُبِّس عليكم تلبيسا، فما تأخذونه من طريق المختصرات والتلخيصات والمتون وبرامج التلفزيون ورسائل اليوتيوب والواتساب القصيرة إعلام ونوع من الاستهلاكية تميز به عهدكم، وما أُعنِّيكم وأحملكم عليه هو تعليم وتدريس، فهذه البرامج الإعلامية والرسائل القصيرة ليست من الدراسة في شيء،

قالوا: اشرح لنا الفرق بين ما نحن فيه وبين الدراسة شرحا وافيا عسى أن ينفعنا.

قلت: اسمعوا مني ما أقوله لكم وتدبروه بعقولكم، إن الناشئة في عصرنا ألِفوا واعتادوا أن يضغطوا الزِّرَّ وقد تمثَّل لهم ما هووه جاهزا: من الصور، والأطعمة، والأشربة، والأخبار، والتعليقات، والحوار، والعلوم، والفنون، والآداب، والنظرات المعاكسة، والاتجاهات المعارضة، غير مُعملين أفكارهم، ولا مسخرين عقولهم، وغير باذلين جهدا، ولا كادِّين كدا.

فهذا الذي تلقفتموه أو اختطفتموه ليس بدراسة، وإنما الدراسة الوصول إلى الحق والصدق بالحفظ عن ظهر الغيب، وسبر الأغوار، وتحليل الأفكار، والرجوع إلى المصادر، ومناقشة الأدلة، ومعرفة أوجه الخلاف، والإحاطة بمعروف الآراء وشاذها، والمقارنة بين المذاهب، وترجيح بعضها على بعض، ومحاكَّة النظريات ووجهات الأنظار، والجلوس إلى العلماء، ومشافهة الشيوخ، ومشامَّة الرجال، ونسخ الكتب، وتقييد الفوائد والأمالي، والرحلات والأسفار، وتكلف الروحات والدُّلَج، وركوب البر طورا، وطورا اللُّجج، والصبر على الشدائد، وأخْلِقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجته.

قالوا: وهل يسع وقتنا كل ذلك؟

قلت: نعم، فاحفظوه من الضياع، وإياكم والصحف والمجلات، والتلفزيون والمذياع، والإنترنت، والجوالات الراقية والهواتف الذكية، والتسكع في الشوارع والأسواق، والتنزه في الحدائق والبساتين، وصحبة آلفي الطعام والشراب، والمغرمين بالأهواء والهوايات، وتجنبوا الأنام أن تؤاخوهم، وترفعوا عن الأعداء أن تعادوهم.

قالوا: ومن يعيش هذه الحياة؟

قلت: يعيشها رجال ونساء في الشرق والغرب، لهم شرف يطأون به الثريا، ولهم نفوس تحل بهم الروابي والعُلا، وتأبى أن تحل بهم الوِهاد والدُّنى، ورأيت أجناسا لهم في أوكسفورد قنعوا بشظف العيش، وصرفوا عيونهم عن ملذات الحياة، ولا همَّ لهم إلا العلم، ولا مبتغى لهم إلا النبوغ، وهانت عليهم الخطوب وصروف الدهر وكأن بينهم وبينها إصارا وودادا.

قالوا: ألسنا من العالَم؟ فكيف لنا بأنبائه وأحداثه؟

قلت: لا يضركم الجهل بها، وإن كان منها شيء لا بد منه، فـــ:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّد