معنى الأم

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: بين لنا معنى “الأم” كاشفا القناع عن حقيقتها وجاليا الغبار عن وجهها وطهارة أصلها.

قلت: أخشى أن يكفرني الفقهاء والمفتون وأصحاب العقيدة والكلام، ويرمونني بالخروج عن ملة الإسلام.

قالوا: أليس هذا إفراطا في الحكم وعدوانا في الخطاب؟ سألناك عن معنى الأم فجررت علماءنا إلى أمر لا يهمهم من قريب ولا من بعيد، إياك والاستطالة على الناس، وإياك والظلم والإجحاف، “ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى”.

قلت: فما تقولون فيمن يزعم أن الأم تتصف بما لا يتصف به الرب من الرحمة والمحبة، وتتحلى بما لا يتحلى به غيرها من العطف والمودة؟

قالوا: أخَرِفت؟ أبك خبل وجنون؟ وهل حطَّك حب الحشو والهراء والهجر والهذيان إلى أن تنتقص من ربنا سبحانه وتعالى وتجهل قدر مولانا عز وتبارك، ومن يستريب في كفر من أنت آثر قوله؟ ومن يتوقف في إنكار هذا المنكر الشنيع؟ وما نرى ذلك الزور إلا استحداثا من نفسك واختراعا، ولولا أن تلقنَّا منك الصبر في الحكم على الرجال لوقعنا فيك شر وقيعة ولعِبناك بكل قبيحة، فائتنا بكلام فصل، وإلا تبرأنا منك التبرئ كله.

قلت: فاسمعوا وعوا مسبحين بحمد ربك ومقدسين له ومثنين عليه بكلمات الشكر والتمجيد، إن الله تعالى بعث لنا سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم نبيا رسولا، ونصبه مقياسا للحق ومعيارا، وجعله أسوة ومثالا، ولا فلاح لنا إلا أن نتبعه في عباداتنا ومعاملاتنا وسلوكنا، ومع ذلك فثمة أمور استحال أن يكون فيها أسوة للناس وقدوة.

قالوا: أكبر بقولك هذا مقتا وأثقل به علينا عبئا! ما تلك الأمور التي انتحلتها انتحالا؟

قلت: لو أحب الرجل أن يجد أسوة لنفسه في البر بالوالدين، أو رغب الزاني والسارق في أن يظفرا بقدوة في الندامة والتوبة، ونظروا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لما وجدوا إلى ذلك سبيلا، فقد سما حبيب رب العالمين صلى الله عليه وسلم أن يكون مثالا عمليا يحتذي به هؤلاء، لا ننكر أن هناك آيات قرآنية وأحاديث فيها لهم هدى وتعليم، ولكننا نعدم سنة من النبي صلى الله عليه وسلم أو طريقة عملية مأثورة منه في مثل هذه الجوانب، وكان فضل الله علينا عظيما فجعل أصحابه رضي الله عنهم امتدادا لأسوته وفروعا لذلك الأصل الطيب الطاهر، فمن أراد من المذكورين التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وُجِّه إلى أصحابه، بلغوا الذروة في البر بالوالدين، ونال زانيهم وسارقهم وعاصيهم كمالا عجيبا في الندامة والتوبة والإنابة، وما ندامتهم وتوبتهم وإنابتهم إلا مقتبسات من تلك المشكاة المنيرة ومن تلك الشمس المضيئة.

قالوا: هذه لفتة بديعة نشكرك على تعليمنا إياها، فما علاقتها بما سألناك من إماطة اللثام عن ذلك القول الذي أعظمناه إعظاما؟

قلت: إن الله تعالى أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، تعالى على خلقه إنعاما وإحسانا وإفضالا، وإن تعدوا نعمه لا تحصوها، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، ومن كان هذا شأنه في سعة ملكه وعظيم سلطانه لا يقدر فضله التقدير الصحيح،

قالوا: ما الذي قصدت؟

قلت: إن صحبتموني ومررت معكم بنهر كبير جار فائض بماء صاف، وسقيتكم منه ورويتكم رواء، فإن ذلكم لن يدل على جود مني وسخاء، ولكن إن أتيتموني وأنا في ضنك من العيش وآويتكم وأطعمتكم وسقيتكم مؤثرا إياكم على نفسي، فإن ذلكم سيبلغ منكم مبلغا عظيما ولن تألوا جهدا في شكري والتنويه بفعلي والإشادة بكرمي، واقرأوا ارتفاع مرتبة الصحابة رضي الله عنهم في قوله تعالى: “يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”، و”يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا”.
قلت: إن الإنفاق من الإقتار، والبذل من الضيق منقبة عظيمة، ولكن هل يمكن أن يتصف بها ربنا تبارك وتعالى؟

قالوا: لا، فالله منزه من العوز والفقر ومتسام عن الإقتار والضيق،

قلت: أولا تعلمون أن الله تعالى لا ينقصه من المحامد شيء؟

قالوا: بلى،

قلت: وهذه المحمدة تتناقض مع صفة الله: “الواسع”، وقوله “وإن من شيء إلا عندنا خزائنه”، فإذا امتنع أن يوصف بتلك الصفة لأنها متناقضة مع كماله أفلا يؤدي ذلك إلى سوء ظن في جنابه تعالى وتوهم نقص لاسيما من قبل الجاهلين الغافلين؟

قلت: دفع الله هذا الظن السيء، ونفى هذا النقص المتوهم بخلق الأمهات اللاتي ينفقن من إقتار ويبذلن من ضيق ويرحمن من ضعف، إن حنوهن من ظلال رحمته، وشفقتهن مشتقة من كرمه، يكابدن في سبيل تنشئة أولادهن نصبا وإجهادا ويتجشمن بؤسا وإرهاقا، هن ذوات حمل وإرضاع، حنانهن شفاء للجروح، وأحضانهن بلسم للنكايات، يسهرن على مرض أولادهن ويذبن كمدا من أجل عيشهم، وتلتاع قلوبهن عند فراقهم، يصبرن على الجوع والعري والسهر والتعب، ويطعمن أولادهن ويكسونهم ويوفرن لهم النوم والراحة والدعة، ينقصن من آلامهم وأحزانهم، ويزدن في أفراحهم ومسراتهم، يسمعن أصوات الصغار الخفية، ويعبرن أحلامهم، ويترجمن رغباتهم، يهدين إليهم لين الحياة ويدفعن خشونتها ضامَّات إياهم في صدورهن، تناخ ركاب الأماني على أبوابهن، ويحسب نجاح الآمال في رحابهن، وتستقبل وفود الهموم في جنابهن، وما من قوم أبلغ منهن في التضحية والإيثار والرأفة والحدب والإشفاق، فالأمهات أجنحة رحمة الله وكرمه وجوده وإنعامه الممدودة، كما أن الصحابة رضي الله عنهم امتداد لأسوة النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: ذلك معنى الأم، فهي الإيثار ومعناه، والإخلاص ومغزاه، والورد فائحا في الكون شذاه، وهي محبة وحنان، وبحر من فيض وإحسان، والأم أسى وشجى في الصباح والمساء، وهي في البلاء والكلفة والشقاء، وهي مثال للاصطبار والتجلد والعزاء، وما أغفل الناس عن دائها! وما ألهاهم عن عنائها!، إن الأم مظهر من مظاهر معنى الربوبية وفيض من فيوض الرحموتية، وهي لؤلؤة آدمية مشتقة رحِمها من رحمة الرحمن الرحيم، وهي دلالة أرضية على كرم من في السماء، فتبارك الله الذي جعل في قلب الأم دنيا من خلقه، ودنيا من خلق أولادها، وسبحان من جعل لكل واحد أما واحدة، فلا معول له إلا عليها.

قالوا: استوعبنا ما شرحت شاكرين لك، ولكنك حططت من قدر نعمة الله؟

قلت: وكيف ذاك؟

قالوا: إذا كان الإنفاق من غنى ليس بذاك في الكرم، وربنا أغنى العالمين فلن يكون لكرمه إذن شأن كبير، كما أن الإنسان إذا سقى من النهر الجاري لا يسمى كريما.

قلت: الفرق بين الأمرين كالفرق بين الأرض والسماء، فإن الإنسان إذا أعطى من كسبه وإن كان ثريا عُدَّ كريما وعلا قدره، والنهر ليس من كسبه، فالسقي من النهر لن يكون كرما، وإنفاق الثري الغني من ماله جود وكرم، واعلموا أن كل ما في الكون من خلق الله وصنعه ومن ملكه وذات يده، وأن إنفاقه ليس من كسب غيره ولا من فيض خلقه، بل إنما يهب مما أوجده بنفسه غير جاعل لأحد فيه سهما ولا نصيبا، فإعطاؤه عن غنى كرم وسخاء، وهو عظيم العطايا، رزاق، وهاب، دائم السيب. سبحان من يعطي بغير حساب، وتبارك مولانا وتعالى جده، فيا نفس لا تتعرضن لعطية إلا عطية الملك الوهاب.