بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: قد عابك طائشون بتضخيم قضايا النساء وركوب الشطط في مسائلهن، لما تعهدتَّ من مناصرة حقوقهن والدعوة إلى حفظ حرماتهن وصيانة كراماتهن، قلت: وأي مطعن في حماية المظلومين المضطهدين والسعي لإقامة العدل والإحسان ومكافحة الجور والطغيان؟ أليس ذلك مما أمر الله به في كتابه، ودعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه، قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرا) سورة النساء الآية 75، وقال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) سورة المائدة الآية 2، وأخرج الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد: ما من امرئ يخذل امرءًا مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته.
ونصر المظلوم والوقوف في وجه الظالم على رأس الفضائل التي حرض عليها الحكماء من الأديان والحضارات كلها معظّميها للخلق ومحببيها إليهم تحبيبا.
قالوا: رموك بتقديم النساء على الرجال وتفضيلهن عليهم عاضيك بالمسبَّة والمُنحين عليك باللائمة، قلت: نقموني عن جهل وعدوان، وهل أنا إلا متبعًا لأحكام القرآن والسنة، قد يفضل الرجل طبقا لتلك الأحكام على المرأة وقد تفضل المرأة على الرجل، وما أكثر ما يتساويان، قال الله تعالى: “ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض”، وهو خطاب للرجال والنساء، وثبت منه تفضيل بعضهم على بعض، بل وقد نص القرآن على اختصاص النساء ببعض الشيم والمناقب: “وليس الذكر الأنثى”، وورد في التسوية بين الرجال والنساء: “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف”، وهذه حجج قواطع لا ينسخها الجهل والغواية، وأنى لأبرهة أن يضع ما رفعه إبراهيم.
قالوا: إن الذكر أنفع من الأنثى وأشد غناء وطائلة، فلا غرو إذا كان قوم يرغبون في الذكر عن الأنثى ويرجونك أن تحذو حذوهم، قلت: ما دليلهم في رجحان الذكر على الأنثى نفعا؟
قالوا: لا دليل لهم،
قلت: كل طريقة لم تقوِّمها حجة أو لم تسندها شهادة فتلك طريقة معوجة قاسطة،
قالوا: عادة نشأوا عليها وألفوها،
قلت: هذه جاهلية نهى الله عنها ورسوله، وما الناحية التي يرون الرجال فيها أنفع للنساء؟
قالوا: إذا كبِر الآباء والأمهات كفلهم أبناؤهم متولين أمورهم وراعين لها رعاية، بينما تكون البنات قد تحمَّلن إلى بيوت أزواجهن، غير واجدات إلى مساعدة آبائهن أو ذوي أرحامهن سبيلا، قلت: إن الرعاية لا يشترط لها اتحاد المنزل وقرب الأرض، وقد يكون القاصي أنفع من الداني وأوصل للرحم وأرعى للحق، وكم من بنات رأيناهن ولِين أمور آباءهن كالئين لهم وقد تناءت ديارهن ورمتهن النوى مرامي، بل وشاهدنا أبناء هجروا آباءهم قاطعي الأرحام وصارمي حبال المودة والقربى مُعادين سنن الأتقياء البررة، فوصلتهم بناتهم وحفظن لهم حقوقهم مضحيات بمصالحهن وأهوائهن، ومن أحسن ما وقفت عليه في ذلك قصة معلمة عزباء،
قالوا: وكيف كان ذلك؟
قلت: زعموا أن فتاة بارعة في الحسن والجمال ومتضلعة من العلم والثقافة عُيِّنت معلمة في مدرسة للبنات، فقامت على عملها أحسن قيام، وأثبتت الأيام تفوقها ونجاحها، واغتبطت بها الطالبات في إلف وابتهاج، وأعجبت المديرة وسائر المعلمات بها أيما إعجاب، ومضت أعوام سعيدة لها في المدرسة، حتى أدبرت سنها وجاوزت من العمر الأربعين.
سألتْها يوما تلميذاتها، وقد جدَّ بهن السؤال، وقلن: أيتها الست الفاضلة! قد بلغتِ في العلم والفضل مبلغا تقاصرت عنه سائر النساء في عصرنا ومصرنا، ولا نعيبك في حسن الصورة وجمال الشارة، وأنت متحلية بنبيل الأخلاق وشريف الخصال، ومثلك يتنافس فيها الرجال ويتسارع إليها الخطاب، فما لك لم تتزوجي؟
قالت: اسمعن قصة،
قلن: ما هي؟
قالت: تزوج رجل من امرأة، فولدت له منها بنت، فامتعض من ذلك غير كاظم غيظه، وحملت المرأة ثانية، وقد جمحت به الرغبة أن تلد ذكرا، ولكنها وضعت أنثى أخرى، فثار غضبا كارها للبنتين أشد كراهية، وحملت مرة ثالثة، ولم تلد إلا أنثى، حتى بلغ عدد البنات خمسا، فقال لامرأته موغرا صدره: إن ولدت بنتا سادسة، فسأنبذها في طريق أو فلاة، ولن أدعها تنشأ في بيتي، وقضى الله تعالى أن ولدت بنتا سادسة، فجن الرجل من شدة الغضب، وحملها في جنح الليل وطرحها في طريق يتمنى لها الهلاك أو أن يخطفها خاطف، ورجع إلى منزله ونام، وباتت الأم تدعو ربها، ولما أصبح الشقي نزل إلى الشارع فإذا الوليدة كما هي طريحة في الشارع، لم تمت ولم يخطفها خاطف، فالتقطها وارتد بها إلى بيته، وعسعس الليل فطرحها في مكان آخر، ولما أصبح مر به، ووجد الوليدة كما هي، فرجع بها، وعاود ذلك أياما، ولكن البنت لم يلحقها ضرر كأن يدا خفية تدبر أمرها، وكأن عينا ساهرة تحرسها، فرأى أنها من قدر الله فقبلها مكرها وقد بلغ الغيظ والحنق منه أمدا بعيدا.
وحملت المرأة وولدت هذه المرة ذكرا، ولكن ماتت البنت الكبرى، ثم ولدت ثانيا وفقدت الابنة الثانية، وصارت كلما ولدت ابنا فقدت بنتا، حتى ولدت خمسة ذكور وفقدت خمس بنات، وبقيت البنت السادسة التي عزم أبوها على إزهاق روحها والتخلص منها، وماتت الأم، وهنا التفتت المعلمة إلى الطالبات وسألتهن: وهل تعرفن من هي البنت السادسة؟ هي معلمتكن القاصة عليكن هذه المأساة المؤلمة المفجعة.
وكبر الأولاد الذكور فتزوجوا وهجروا أباهم، وقد أصبح شيخا طاعنا في السن، لا يقدر على عمل، فاشتغلتُ بعمل التعليم، وأرعى أبي، وقد ندم على ما فرط منه في حقي ندما كبيرا، واعتذر إلي وسألني أن أتزوج، قلت: لا رغبة لي في الزواج، ولا هم لي إلا خدمتك والبرُّ بك، فهذه قصتي ومنزع تجردي وعزوبتي.
قالوا: هي قصة فيها عبرة لمن اعتبر، فماذا تنصحنا به؟ قلت: أنصحكم أن تعرفوا حدودكم ولا تتخطوها، مطيعين لله ولرسوله، ناهي نفوسكم عن أهوائها ورسوم الجاهلية وعادات قوم بالله كافرين، واعرفوا للنساء حقوقهن محترمين إياهن مكرمين، وعليكم بالعلم واتباع أهله الصالحين، وإياكم والجهل واتباع أهله المغرورين، واعلموا أن العلم جبل صعب المصعد، والجهل منهل سهل المورد، واحذروا اللئام والزموا الكرام، فاللئيم ظلام الليل الحالك، ملوم بكل لسان، والكريم فجر الدجى في الأزمن السود، مكرم في كل مكان.