بسم اللّه الرحمن الرحيم
تأليف: أبوعبد اللّه محمد بن مالك الطائي الجياني الشافعي (ت 672 هـ)
تحقيق: الأستاذ محمد وجيه التكريتي
مجمع اللغة العربية الأردني
عرض: محمد أكرم الندوي
هذه رسالة لإمام العربية أبي عبد اللّه محمد بن مالك الطائي الجياني الشافعي (ت: 672 هـ)، عالج فيها مسألة شغلت بال النحويين قديما وحديثا، وهي تذكير خبر (رحمة اللّه) في الآية الكريمة: “إن رحمة اللّه قريب من المحسنين”٠
كانت الرسالة في شكل مخطوطة في مكتبة الظاهرية بدمشق، يرجع تاريخ نسخها إلى 14 شعبان سنة 738هـ، وكانت في حاجة ماسة إلى أن ترى الضوء نظراً إلى قيمتها العلمية فوُفِّق إلى تحقيقها وإخراجها الأستاذ الفاضل النحوي محمد وجيه التكريتي السوري المقيم في مدينة أوكسفورد، وقام بنشرها في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني، العدد 46، جمادى الأولى 1414هـ – شوال 1414 هـ، ثم أفردت طباعتها من قِبل المجمع نفسه٠
اعتمد الأستاذ المحقق على نسخة مكتبة الظاهرية وحدها، ولم يظفر بنسخة أخرى للرسالة، إلا أن وجود النص في كتاب (الأشباه والنظائر في النحو) لجلال الدين السيوطي تلافى النقص إلى حد كبير٠
تحدث الأستاذ التكريتي في المقدمة عن حياة المؤلف وآثاره بإيجاز، ثم ألقى الضوء على ما لرسالته هذه من قيمة علمية، وذكر أن ابن هشام الأنصاري وضع مؤلَّفا على غرار مؤلَّف ابن مالك في الموضوع نفسه، قام بتحقيقه الدكتور عبد الفتاح الحموز، ونشرته دار عمار سنة 1985م، ثم قام بمقارنة بين المؤلَّفين، وأكد قول الدكتور عبدالفتاح الحموز: “يُعدَّان عمدة الباحثين والدارسين في تذكير (قريب) في قوله تعالى: “إن رحمة اللّه قريب من المحسنين”، ثم ذكر منهجه في تحقيق الرسالة، وأثبت في الأخير المصادر والمراجع التي استفاد منها في التحقيق٠
أما متن الكتاب فقد ذكر فيه ابن مالك ستة وجوه في تذكير (قريب)، واستدل عليها بشواهد من الشعر، والقرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف، وفي ما يلي ذكر هذه الأقوال ملخصة:
أحدها أن “فعيلاً” في الآية وإن كان بمعنى “فاعل”، قد جرى مجرى “فعيل” الذي بمعنى “مفعول” في عدم لحاق التاء، ونظير “إن رحمة اللّه قريب من المحسنين” قوله تعالى: “قال من يحيي العظام وهي رميم”٠
الثاني أنه من باب تأول المؤنث بمذكر موافق في المعنى، فتُتأول “الرحمة” بالإحسان، فيذكَّر خبرها، وإذا جاز تأول المذكر بمؤنث في قول من قال: “جاءته كتابي” أي صحيفتي، فلأن يجوز تأول مؤنث بمذكر، لكونه حمل فرع على أصل، أحق وأولى٠
الثالث أن يكون من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف، فكأنه قال: إن مكان رحمة اللّه قريب من المحسنين، ثم حذف “المكان” وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره٠
الرابع أن يكون من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، كأنه قال: إن رحمة اللّه شيئ قريب من المحسنين، وحذف الموصوف وإقامة صفته مقامه سائغ٠
الخامس أن يكون من باب اكتساء المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحاً للحذف والاستغناء عنه بالثاني، والمشهور في هذا تأنيث المذكر لإضافته إلى مؤنث على الوجه المذكور، كقول الشاعر:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
فقال: تسفهت، والفاعل مذكر، لأنه اكتسى تأنيثا من الرياح، إذ الاستغناء بها عنه جائز، وإذا كانت الإضافة على الوجه المذكور تعطي المضاف تأنيثا لم يكن له، فلأن تعطيه تذكيرا لم يكن له كما في الآية الكريمة أحق وأولى، لأن التذكير أولى، والرجوع إليه أسهل من الخروج عنه٠
السادس أن يكون من الاستغناء بأحد المذكورين لكون الآخر تبعا له ومعنى من معانيه، فعلى هذا يكون الأصل في الآية الكريمه: إن رحمة اللّه وهو قريب من المحسنين، فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود، وسوَّغ ذلك ظهور المعنى٠
وختم ابن مالك بحثه هذا بالرد على بعض من زعم من الفقهاء أن إخلاء “قريب” من التاء لم يكن إلا لأجل أن “فعيلا” يجري مجرى “فعول” في الوقوع على المذكر والمؤنث بلفظ واحد، وأسهب ابن مالك في الرد، وأتى بفوائد علمية كبيرة٠
وقد أجاد الأستاذ التكريتي في تحقيق الرسالة ووفَّى بشروطه، فضبط الكلمات، وحقق المصادر، وشرح المشكلات، إلا أنه أخطأ في ضبط بعض الكلمات، ولعل مرد ذلك إلى اكتفائه بنسخة واحدة للمخطوطة، فمثلاً”
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
فقال: تسفهت، والفاعل “مر” مذكر، لأنه اكتسى تأنيثاً من الرماح، ص 225، وهوخطأ، وينبغي أن يكون “اكتسى تأنيثا من الرياح”.
وفي الصفحة 227: “لأنه تقدم التنبيه على ما لفعيل على ما لفعول من المزايا”، وهذا خطأ من الناسخ وينبغي أن يضبط “لأنه تقدم التنبيه على ما لفعيل على فعول من المزايا”.
وفي الصفحة 227: “وأما المخالفة معنىً فلأن “قريبا” مبالغةٌ فيه، لأنه يوصف به كل ذي قرب وإن قل”، والصحيح في الضبط “فلأن قريبا لا مبالغة فيه”، وإلا لم يكن له معنى، لأن المؤلف يريد أن يؤكد هنا أن “قريبا” لايقاس على فعول، لأن فعولا لابد فيه من المبالغة بينما “قريب” لا مبالغة فيه، فيقول: “و”قريب” ليس كذلك، ولا مبالغة فيه” ص 227.
وفي الصفحة 228: “والمعروف في مصدر أقام الصلاة، إقامة، ولايقال: أَقامَ دون إضافة”، والصحيح أن يضبط “ولايقال: إقام دون إضافة”٠
وأخيراً فإن إخراج هذا الكتيب العلمي القيم تحفة نادرة لطلاب العربية، فشكراً لمؤلفه ومحققه من طلاب العلم، ونرجو من الأستاذ الفاضل المحقق أن يواصل في إتحافنا بأمثال هذه النادرة اللغوية٠