بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا من قرية من قرى جونفور في الولاية الشمالية، بالهند، وقريتي متاخمة لقرى مديرية أعظمكراه، وهذه القرى المتقاربة المجاورة قرى للمسلمين الذين انحدروا من أصول عربية أو أفغانية أو يرجعون إلى أصول هندية، يملكون أراضي زراعية وآتاهم الله من أسباب العيش ما سدّ خلاتهم وأسعد حياتهم وأصلح شؤونهم، وتربطهم بالعلم والدين صلات تقوى أحيانا وتضعف أخرى، وقد تجد نساءهم أصلح وأتقى وأورع من رجالهم، تبقى صفاتهن مستورات كما أن أجسادهن محجَّبات، فلايطلع الرجال على غيوبهن وبواطنهن كما لا تقع أبصارهم على دُثُرهن وظواهرهن، ولا يقفون على المعاني في حياتهن كما لا يجدون إلى كلماتهن سبيلا، إلا أن يُخطف شيء من خفاياهن أو يُسرّب بعض سرائرهن، فيستدل به على ما لم يُخطف، ويُستجلى به ما لم يُسرَّب.
ابتليت سيدة من بعض هذه القرى بألم في مفاصلها، فاتصلت بطبيب من قريتها مقيم في دلهي على بعد ثلاثمائة ميل منها أو أكثر، ووصف لها دواء ناجعا، وشفاها الله من الألم، ثم أصيبت بصداع في رأسها، واتصلت بالطبيب نفسه، فوصف لها دواء ولم يأل جهدا آملا أنه سيعمل عمله، ولكن الدواء لم يخفِّف من مرضها، ولا حسّن من حالها، فعجب الطبيب الحاذق من خيبة أمله وأدار أفكارا في رأسه وقلَّب خواطره تقليبا، ولم يهتد إلى أصل مرضها ولا دواء يستبدل به، فكتب إليها يسألها عن منشأ الصداع وأن لا تخفي شأنا من شؤونها عسى أن تُعرض له علتُها ويجد لها دواءا شافيا يبرئها من شكواها، فكتبت إليه:
أردت أن أكتب إليك عما استكشفتَ من مرضي واستفسرتَ من أمري، فتقف على أصله ومبدئه وتهتدي به إلى البحث عن دواء يحسم دائي ويعالج صداعي، ولكن عُقد لساني وحُبس بناني، وغلبني حصر وعيٌّ، وعشت أياما متلكئة ومترددة، حتى دفعتني خطورة أمر المعالجة دفعا ونبَّهتني تنبيها وقد ازددت ألما على ألم وتعبا فوق تعب، ولم أجد بدا من أن كتب إليك: فقد شفاني الله من ألم المفاصل بدوائك، ثم ابتليتُ بصداع في رأسي استقر بي وزاد من عنائي.
ما منشؤ هذا الصداع؟ وما مبدؤه؟ لم يحملني شيء قط على أن أكشف عنه وأبوح به، واضطررتُ الآن إلى كتابته إليك لما ألححتَ علي أن وصف الدواء منوط به، فقصتي أنني إذا قضيت ليلتي مضطجعة على فراشي لم أحسَّ بألم، ويمضي نهاري وأنا في سلام وعافية، ولكني حُبِّب إلي القيام في ظلمات الليل الهادئة، فأصلِّي وأناجي ربي منعزلة عن الناس، وربما تتطرق مشاهد يوم القيامة وعذاب القبر إلي وأنا في صلاتي في الليل وتقسر على فكري قسرا، وتسيطر على قلبي سيطرة فتنهمل الدموع من عيني، وتتساقط العبرات، وتبيَّن لي أن ذلك هو الذي يضرني، تفيض عيناي فأصاب بالصداع، وجرَّبتُ ذلك مرة بعد أخرى وكرة تلو كرة، فلا تفارقني الدموع والعبرات إلا وتُورثني وجعا ورُزءا.
ليس أمري هذا مما يُكشف لأحد أو يُملى عليه، وإنما أكرهتُ قلبي على سطره بغية العلاج والدواء، فأرجو أن تمزق رسالتي بعد أن تطلع على مضمونها وتبددها تبديدا.
فكتب إليها الطبيب: وصلني كتابك الكريم، وما شرحتِ من وصف صداعك هداني إلى البحث عن أصل مرضك ووضع الأصبع على الداء، فوصفت لك دواء تشترينه من صيدلية، وستشفيك جرعة منه إن شاء الله تعالى. وأعتذر إليك أنني خالفت أمرك ولم أمزق كتابك رغم وصيتك، فإنه لا يتضمن بيان مرضك وحده، ولكني وجدته يحمل في طيه بيانا شافيا لطبي الروحي ودواء قلبي وإصلاح شأني، وصادفت فيه تأثيرا قويا عاجلا لم أعهد مثله في كتابة، ولا موعظة.