ما لي أحب القرآن الكريم؟

Reading Time: 5 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: نقدِّر ما نرى من مصافاتك للقرآن الكريم في كلف عظيم وتحنن شديد، مفضِّلا له على سائر الكتب والتعاليم وراضيا به رضى عجيبا.

قلت: صدقتم، فو الله الذي لا إله إلا هو، لم أحب كتابا ما أحببت كتاب ربي، حبا دخل شغاف قلبي وتمكن من نفسي تمكنا شديدا، وهذه نعمة جلى من ربي وموهبة لا تقاس بها المواهب، كأني وضع لي فوق البدر مهاد، وكأن الجوزاء تحت يدي وساد، والنيرات لي عماد.

قالوا: فما الذي دعاك إلى هذا الولاء له؟

قلت: هو ما هديت إليه من فضله، وما دللت عليه من شرفه، والذي علمت من جلالة شأنه وعظمة قدره ليس إلا كنقطة في البحر أو أقل منها، وكلما ازددت به معرفة ازددت له حبا وبه غراما.

قالوا: زدنا بيانا.

قلت: إنه كتاب ناصح، يعلِّمني، ويفسِّر لي كل شيء، ويشرحه شرحا وافيا، لا كتاب يملي علي ألغازا سرية، ويفرض علي أحكاما غامضة، ويكرهني على اعتقاد أساطير، إنه كتاب يهديني إلى ناموس شامل مفهوم تنتظم به التغيرات والانقلابات والأوضاع والتطورات في الجماد والنبات والحيوان والإنسان، إنه كتاب ينور بصيرتي، ويزكي عقلى، ويشفي قلبي، ويبسط لي آفاقا واسعة وأغوارا عميقة في الكون، فيزهدني في الدنيا ومتاعها الزائل وزينتها وزخارفها.

وقلت: إنه كتاب يبعث في نفسي طموحا عزيزا وشجاعة نادرة، فلا أتطلع إلى ما ترنو إليه أنظار الأقزام، ولا أخاف مما تخافه النفوس الصغيرة الدنيئة، فلا أطيق عبث الفلاسفة والمتكلمين الذين اقتنعوا بالكلمات والظواهر دون المعاني والبواطن، ولا هذيان عبدة الطواغيت والشياطين الذي أخلدوا إلى هذه الأرض مستمسكين بالشهوات والأباطيل والأكاذيب.

وقلت: ومنذ أن ألفت هذا الكتاب عرفت أن حياتي ليست هذا العمر القصير الذي أحياه بلحمي ودمي وأعيشه في طعام وشراب، وأقضيه في لذة وشهوة، وإنما حياتي تمتد إلى الملايين الملايين من السنوات، بل إلى أبد الآباد، أنعم فيها بروح طاهرة نقية، وجسم صاف، وملك كبير، وجوار أرحم الراحمين، وصحبة المصطفين الأخيار، والحمد لله رب العالمين.

قالوا: أشركنا فيما هداك ربك إليه من الوقوف على صفات كتابه المعجز الخالد فنحبه كما تحب،

قلت: يطول ذلك طولا يضيق الوقت عنه، وهل أقدر على الحديث عن كتاب مد في ليلي ونهاري، وشهوري وسنواتي، وأفاض نموا وبركة في خيراتي وحسناتي، وغيَّر في رؤياي للدنيا واتجاهاتي، وما للمسك في أن فاح حظ ولكن حظنا في أن يفوح، ولعلي إذا أرسلت نفسي على سجيتها في وصفه أخذتكم سآمة وملل،

قالوا: لخص لنا بعضه مقربا إياه لنا تقريبا وميسرا له تيسيرا،

قلت: خذوا عني ست خصال تدلكم على غيرها،

قالوا: رضينا بها فهاتها،

قلت:

الأول: إن بيننا وبين الحقائق حجبا كثيفة تسترها عنا، وهي حجب الجهالة، والغفلة، والعصبية، والأهواء، فيكشف القرآن عنا هذه الحجب كشفا، وإذا بنا نرى الحقائق صريحة ناصعة، ويحررنا من ذلك العقم العقلي الذي ضل في الأسباب والظواهر والقشور، عيِيًّا عن إدراك المعارف والزبد والألباب، فلا يتحدث إلا عن البطن والفرج، والمادة والمعدة، وأرض أبعادها ضيقة ومسافاتها معلومة، وأن وجود البشر نتيجة صدفة وتطور مجهول، فيا لها من تفاهة في التفكير، وعمى في النظر، وركود في الفهم، حيث وضعت الحدود والسدود في سبيل العقول والأفكار، وانتهكت النفوس البشرية بأفظع مما ينتهك الفساق والفجار الأجساد البشرية.

والثاني: إن الكتب كلها تمزج بين الصدق والكذب والحق والباطل، وتخلط بين العدل والظلم، والقسط والجور، فتقرن بين المتناقضات والمتضادات، وتفصل بين المتماثلات والمتشابهات، تشرع شرائع على أسس فاسدة من المصالح والمنافع الوطنية والقومية والعرقية والجنسية، وامتيازات وفوارق غير فطرية، وتزن الكافر والمؤمن، والصالح والفاسق بميزان واحد، فلا تتطور من الغباء إلى الذكاء، ومن الركود إلى النشاط، والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي يصدق ولا يكذب، ويري الأشياء كما هي من دون تخليط بينها ولا تشويش، إنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، وهو كتاب عدل وقسط، بعيد عن الظلم والجور كل البعد، يؤتي كل ذي حق حقه في توازن واعتدال.

والثالث: إن عامة الناس يقصرون في بحثهم عن العلم، ويفرطون في توصلهم إلى اليقين، فيقتنعون بالظنون والأوهام، ويرضون بالشكوك والشبهات، فيضلون ويضلون، حاطين بأنفسهم من العلياء، ومنغمسين في الأقذار، والقرآن كتاب علم ويقين، أوفى معرفة، وأنصع بيانا، وأدق منطقا، وأحلى لفظا، وأطيب معنى، يخلص قارئه من الغي والضلال والزيغ والانحراف، ويرفعه إلى سماء الطهارة والعفاف والحكمة والسداد.

والرابع: إن التعاليم البشرية تصل الإنسان بالخلق، فيبقى حيران تائها، والقرآن يصله بربه، فيطمئن، ويضفي عليه كرامته وحرمته وحريته.

والخامس: إن عامة البشر منخدعون بزهرة الحياة الدنيا، فيجرون وراءها مغرورين بها منصرفين عن النعيم المقيم، والقرآن يدعو إلى حط الرحال في جنات عدن وفراديس خلود، ويجعل الأولى وسيلة للآخرة، ويفتح الطريق للفوز برضوان الله وإكرام منه بدار فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

والسادس: إن الناس يجهلون كيف يعيشون في هذه الدنيا عيشة هنيئة حسنة، فلا أدب لهم ولا خلق ولا سمت، وحاشاهم أن يرتقوا بأنفسهم إلى منهج في الحياة ينقلهم من البداوة والجفاء إلى الحضارة والوفاء، ويتبعون أناسي فاسدة أذهانهم مختلة عقولهم، متدهورة أخلاقهم وسلوكياتهم، ذوي أحاديث تافهة واهتمامات زائفة، كأننا أمام قردة في المجتمع البشري، وما للصغار فضائل، ولا للئام مكارم، والقرآن يهدي إلى أقوم السنن في الاجتماع والعمران، وذلك من خلال اتباع النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي أوتي الخلق العظيم والسمت الرفيع والأدب القويم.

قالوا: من حبب إليك القرآن تحبيبا؟

قلت: هم ثلاثة، الأول الإمام العلم المفرد أحمد بن عبد الحليم الحراني الذي أوتي قلبا سليما فسكن إلى كتاب الله سكونا وألفه إلفا لا نظير له، وإن الأمهات لعقيمات من أن ينجبن مثله، وحق لهن ذلك، والثاني العلامة عبد الحميد الفراهي الذي أدرك عظمة القرآن واهتدى إلى طريقه الأقوم، فنمَّى به العقول وطهَّر به النفوس، والثالث شيخنا شهباز الإصلاحي الذي أجللته أستاذا لي وشيخا وعظمته معلما ومربيا، وقد تسلل إلى عقلي وقلبي بآرائه وأفكاره، فأثر في شخصي وكوَّنه تكوينا جديدا وصاغه صياغة فريدة، فاقتبست من الثلاثة نورا وضياءا، وتوجيها وتبصيرا، وأدعو الله تعالى أن يرحمهم ويجزيهم أفضل ما يجزي عباده الصالحين.

قالوا: ما هي أمنيتك في حياتك؟

قلت: أمنيتي أن أجعل حياتي كلها موقوفة على القرآن الكريم، حتى يظن الناس أني مضيع لحياتي كما ظنوا ذلك بالإمام الفراهي، أو يحسبوني عارا على نفسي وعصري كما حسبوا ذلك في غيري، ولو قيل لي اسأل شرفا لقلت: لألزم القرآن ولا أزاد، ولأحاذر أن يلم بي الرقاد.
أمنيتي أن أتلو كتاب الله، وأتدبره، وأتفقهه، وأشق البحر من علومه ومعارفه، وأفكر تفكيرا سريا كأني آتٍ برسالة سماوية إلى الكون كله، فأغيره وأغير البصيرة البشرية فيه.

وهمتي أن أتعلم منه كل يوم شيئا جديدا، فتتجدد لي الحياة، وأتجنب السآمة والملل، ولو أننا لم نتعلم كل يوم شيئا جديدا صادقا، ولم نستوح فكرة جديدة حقة لتعفنَّاوفسدنا.

وهدفي الأسمى أن أرى كل شيء في وضوح وصفاء بنور القرآن الكريم، فأتبعه مستغنيا به عن غيره، محقا لما يحقه، ومبطلا لما يبطله، ومحلا حلاله ومحرما حرامه، ثم أموت مسلما وربي عن راض.