بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال لي زملائي في أوكسفورد: لم نشاركك في الدين والحضارة والعرق، ولكن شاركناك في الدراسة والبحث والتحقيق، واشتغلتَ معنا في مشاريع أكاديمية مختلفة، واستفدنا من خبراتك العلمية وتخصصاتك في العلوم الإسلامية وقدراتك اللغوية والأدبية وسليقتك الكتابية، ومناهجك النقدية، ووجدناك باحثا نزيها وعالما أمينا وصديقا وفيا، فحرصنا على أن نطلع على نسبك العلمي، وأصلك المعرفي، وتطورك الثقافي، ولقد رأيناك تعزو كل إنجازاتك العلمية إلى دار العلوم لندوة العلماء، فاذكر لنا أهم ما استفدت منها؟
قلت: قد ربطت بيني وبينكم وشيجة العلم والبحث والتحقيق والحياة الأكاديمية، وتوثقت بيننا أسباب الصداقة والمودة والوفاء، فأشعر بسعادة ومسرة بالغتين في الاستجابة لطلبكم. إني أدين لندوة العلماء في نشأتي العلمية وصياغتي التربوية، وتكويني الديني والخلقي، فلا أدري من أين أبدأ؟ ولعل أقرب ما يلائم ذوقَكم هو أن أبدأ بالجانب اللغوي والأدبي، تعلمتُ فيها اللغة العربية نطقا وكتابة، وأتقنتُ مذاهج العرب في التعبير وتفننها في الكلام وتفوقها في الفصاحة والبيان، فتوسَّعتْ مَداركي وتفتَّحتْ قريحتي، واكتشفتُ عالما جديدا، وتيسر لي الوصول إلى مكتبات اللغة العربية ومنابع العلوم الإسلامية ومواردها ومصادرها، وتحقق التفاهم بيني وبين شعوب العالم الإسلامي ولاسيما إخواننا العرب، فوحَّدت اللغة العربية بيني وبين المسلمين في كافة أنحاء العالم وجمعتْنا في شتى بلاد المعمورة.
قالوا: أدركنا أنك أتقنت اللغة العربية في ندوة العلماء ولا سيما وقد سمعنا الدكتور بسام الساعي رائد الأدب العربي في أوكسفورد يسألك: كيف حققتْ ندوة العلماء في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها النجاحَ الباهرَ الذي لم نحقِّقه نحن العرب وقد جرَّبنا مناهجَ مختلفة من تعليم اللغة ومارسْنا أساليبَ شتى من التواصل والتدريس؟ ولكن اشرح لنا كيف وحَّدت اللغة العربية بينكم وجمعتْكم على صعيد واحد وقد فرَّقتكم أصولكم وأعراقكم وتوزعتكم المذاهب الفكرية والعقدية والفقهية والاتجاهات السياسية والحركية، والمسلمون أشد ما يكونون انقساما من بين سائر الشعوب والأمم؟
قلت: هذا الجانب الثاني الذي أفادتنيه ندوة العلماء، إذ جمعتْ في رحابها المسلمين من الأصول المختلفة والمذاهب المتنوعة، يجتمعون وهم إخوان في فصولها الدراسية وبرامجها التعليمية والتربوية، يتناقشون ويتبادلون الآراء والأفكار، فيقبَلون ويرُدُّون، ثم يتفرَّقون إخوانا، ولم تزدهم المناقشات العلمية والمحاوارات الفكرية والاختلافات في الآراء إلا تقاربا وتحابا وتوادا، فعلَّمتنا ندوة العلماء الاتفاق مع اختلاف الآراء، والاجتماع مع تفرق الأصول والأعراق، والتوحد مع تشتت المذاهب والأذواق.
قالوا: الآن عرفنا كيف لم تجد صعوبة في التعامل معنا تعاملا إنسانيا ونحن لا نشاركك في دين ولا مذهب، وهذا التوسع الذي تميزت به ندوة العلماء ينقصنا نحن الغربيين، فالاختلاف في مذاهبنا جعلنا أعداء متحاربين، بيعنا وكنائسنا ومعابدنا متعادية، ومجامعنا ومحافلنا متناحرة، بل وقلوبنا متنافرة، والبغضاء بيننا متفشية.
قالوا: اذكر لنا كيف نجحتْ ندوة العلماء في خلق هذا الجو من التسامح وتبادل الاحترام؟
قلت: يرجع ذلك إلى تعميقها لجذور العلم والمعرفة في النفوس، فلا تعنى ندوة العلماء بتدريس العلوم الإسلامية والفنون الأدبية تدريسا سطحيا، بل تركز على أن تُمَكِّن الطلابَ من ملكة في البحث والتحقيق والرسوخ والاجتهاد، ومن ثم تشجع الطلاب على مطالعة مؤلفات الأئمة المحققين وسبر أغوارها وتحليل مضامينها في كل شعبة من علوم الدين وعامة مجالات الآداب والفنون، فإذا تعمق الطالب في العلم واضطلع من أصوله وفروعه عرف الآراء المختلفة وأدلتها، والمذاهب المتنوعة وحججها، واطلع على مواضع الضعف فيها والقوة، فلا يتعصب لرأي على آخر، ولا يتحزب لمذهب ضد المذاهب الأخرى.
قالوا: نحترم دائما مجالسنا معك، ونتطلع إليها فإنها مليئة بالفوائد، ولعل مجلسنا اليوم معك من أنفعها، فنريدك أن تجيبنا عن آخر سؤال في هذا المجلس، إنك تستمتع بذكر كبار أعلام ندوة العلماء، فمن هو أقواهم تأثيرا فيك وأبلغهم مقاما لديك؟
قلت: شيخنا وإمامنا أبو الحسن علي الندوي، فما رأيت أجمع منه للفضائل الإنسانية والقيم البشرية والمثل العليا، جمع بين العلم والأدب، والتواضع والخلق الحسن، والمحبة والكرم، ولقد احتَكَكْتُ مع العلماء والشيوخ في الهند والعالم العربي والغرب فما رأيت أقنع منه ولا أزهد، أقبلتْ عليه الدنيا فتولى عنها، وانهالت عليه الأموال والثروات فترفَّع عنها، وعُرضت عليه المناصب والوظائف فتنزه منها.
قالوا: صدَّقناك فيما تقول، وما أنكرنا شيئا مما ذكرت من فضل شيخك أبي الحسن فقد رأيناه في أوكسفورد فَسَرَّنا وجهه الطالع الجميل، ومحياه الباسم المنير، وعلمه العميق، وخلقه الحسن وأدبه الرفيع وتواضعه الجم، واستمعنا إلى حديثه وخطابه فأعجبنا ببيانه وقوة عارضته وظهور حجته، والحق أننا لم نعرف ماذا يعني المسلمون بكلمة الزهد حتى خَبَرْنا شيخك أبا الحسن، يا له من رجل طاهر عفيف ومستغن نزيه.