لقد بعثت فيَّ شجى يا تركي!

Reading Time: 4 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

يا تركي! لقد اقترفت جريمة لا تغتفر، وأتيتَ ذنبا لا يُكفر، لم أنوِ أن أشيد بمآثر العرب ومفاخرها، وأنا في رحلة مقدسة، أو أمجِّد فعالها وأطري محامدها، لم أترك الأهل والديار، ولم أقطع الصحارى والقفار، ولم أعبر الأنهار والبحار، ولم أخترق الأجواء، ولم آو إلى أم القرى، ولم ألجأ إلى مدينة الخليل، ولم أراجع قصة الذبيح، ولم أستعد ذكرى النبي الموعود ليشد انتباهي تاريخ قومك، ويستهويني جبالهم ووديانهم، ويستأسر قلبي أسماء امرئ القيس وطرفة وعنترة وعمرو بن كلثوم، ويسبي لبي فصاحة بني عدنان وسليقتها في الشعر والبيان، وإنما كانت رحلتي لأعبد ربي، وأطوف بالبيت الذي بناه رجال من قريش وجرهم، وأعلِّم أصحابي أمور دينهم، ولأعايش إبراهيم وإسماعيل ومحمدا صلى الله عليهم وسلم، والصحابة رضي الله عنهم، وأتبرك بمشاعرهم وأشهد مشاهدهم، وأستلهم من سيرهم، فشغلتني يا تركي عما جئت من أجله، مالك أخرجتني من جو الإيمان والإسلام والقرآن إلى جو البادية والصحراء والشعر، لقد استثرت عاطفة في نفسي، سلبتني إرادتي وزعزعت عزيمتي، أشعر وكأني أفطرت في نهار رمضان، أو حنثت في يميني ونذري، إذ أطعت صبوتي وجاريت هواي، ليعلم الورى أني أحب العرب كلفا بهم هائما، وإني في وجدي بهم لمن الممعنين المسرفين، وإني في نزعتي إليهم لمن الموغلين المتمادين.

لقد بعثت في شجى يا تركي، واستثرت جوى! أتجول في وادي نعمان مخترقا حدود الزمان، وكأني مع شعراء العرب في جاهليتها مرافقا لهم في حلهم وترحالهم مقبلا عليهم كل الإقبال، يطربني ما يطربهم، ويؤلمني ما يؤلمهم، مذهبي مذهبهم، أرد حيث يردون، وأصدر مما يصدرون، أغوى مع غاويهم وأرشد مع راشدهم، وأقول: بئسما فعل النحاة إذ قسموا الزمان إلى الماضي والحاضر والمستقبل، وما تقسيمهم إلا تفلسفا زائغا، ووضع أغلال على الفكر، لو لم يذهبوا هذا التقسيم لكان الزمان كله سواء، ولعاصرنا الماضي معاصرتنا للحال، فيا أيها النحاة إني عليكم لمن الثائرين، وعلى قواعدكم وأصولكم من المتمردين، ولا أبالي إذا رميتموني باللحن والخروج عن أوضاع اللغة والبيان.

أسرح أطرافي في ماضي العرب، فيمتلئ قلبي إجلالا لهم ومحبة، يعجبونني بدوا يرعون الإبل والأغنام، ويتتبعون بها مواقع القطر، ويترددون في الأودية والفيافي، ويتغذون بلحومها وألبانها، ويكتسون بصوفها ووبرها، ويشربون من العيون والآبار.

وأناجي الطلول المتقادمة عهودها والرسوم الدارسة لائحة كمراجيع وشم في نواشر معصم، لا تعرف ديارها إلا بعد توهم، أثافي سفعا، ونؤيا كجذم الحوض، واقفا بها صحبي علي مطيهم، وقائلا لربعها: ألا أنعم صباحا أيها الربع واسلم، وباكيا من ذكرى الأحبة والمنازل، وفائضة دموعي على نحري، وقفت أسألها، وكيف سؤالنا صما خوالد ما يبين كلامها.

أمر بخيامهم فأستفسر عن فاطمة ذات التدلل، وأم الحويرث وجارتها أم الرباب، وأم أوفى، وأم عمرو، وخولة، ونوار، وعبلة، وأم الهيثم، وأسماء، وبيض حسان، ظعائن كريمات، خلطن بميسم حسبا ودينا، إذا قمن تضوع المسك منهن نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل، وحرائر عفيفات، وبيضات خدر، لا يرام خباؤها، مهفهفات ترائبهن مصقولة كالسجنجل، يضحين وفتيت المسك فوق فرشهن، إلى أمثالهن يرنو الحليم صبابة، وفيهن ملهى للطيف، ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم.

وخبرت أخلاقهم، من الشجاعة والبأس، والجود والسخاء، والصدق والأمانة، والنبل والشرف، وإكرام الضيف، والحرية، والعصبية، والغيرة، والحمية، وشهدت غاراتهم، وحروبهم التي يشعلون نيرانها، يغتدون والطير في وكناتها، إن تبغهم في حلقة القوم تلقهم بها، وإن تلتمسهم في الحوانيت تصطدهم بها، وأيام لهم غر طوال، وإذا قيل من الفتيان خالوا أنهم عنوا فلم يكسلوا ولم يتبلدوا، يكرون كسيد الغضا المتورد، إذا دعوا للجلى كانوا من حماتها، يوردون الرايات بيضًا، ويصدرونهن حمرا قد روين، ورثوا المجد أبا عن جد يطاعنون دونه حتى يبين، إذا جهل أحد عليهم جهلوا عليه فوق جهل الجاهلين، وإذا بلغ الفطام لهم صبي خر له الجبابر ساجدين، يغشون الوغى ويعفون عند المغنم.

وخضعت لكلامهم شعره ونثره، يتبجحون باللسن والفصاحة، مبدعين في الوصف، وقوة الملاحظة، يتفاخرون في عكاظ ومجنة وذي المجاز وأسواق لهم معروفة، يتظاهرون بانتمائهم إلى ذروة البيت الشريف المصمد، منهم من لا تنجلي عنه الغواية، ولا ينسلي فؤاده عن الهوى، يشرب خمورا متى ما تعل بالماء تزبد، وينفق فيها كل طريف وتليد، ومنهم من ملئ كلامه حكما ورشدا، يحدث عن الحرب أنها ذميمة ضارية، تعرك الناس عرك الرحى بثفالها، ويقدم السلم على القتال إن أدرك السلم واسعًا بمال ومعروف من القول، وأن من جعل المعروف دون عرضه وفره ومن لم يتق الشتم شتم، وأنه مهما تكن عند المرء من خليقة تعلم وإن خالها تخفى على الناس، وأن المنايا لا تطيش سهامها، وأنها سوف تدركنا مقدرة لنا مقدرين لها.