بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: عرضت في مقال لك سابق عنايتك بتدبر كتاب الله تعالى في شهر رمضان المبارك، فأشركنا في معنى جديد هداك تدبرك إلى تفقهه،
قلت: هي عدة معان استوحيتها من كتاب الله تعالى في هذا الشهر.
قالوا: أخبرنا بأشرفها لديك وأرقاها.
قلت: هو وصف الله تعالى كتابه بأنه لا عوج له إذ قال: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا” (سورة الكهف 1)، وقال: “وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ”. (سورة الزمر 27-28)
قالوا: ما الذي أراده الله إذ وصف كتابه بأنه لا عوج له؟
قلت: بيان ذلك في آية أخرى: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ ۖ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا. (سورة طه 106-108). فانظر كيف أنبأنا الله تعالى بأنه يجعل مواضع الجبال يوم القيامة أرضا ملساء منكشفة، لا ترى فيها انحرافا ولا انشقاقا، ولا انخفاضا ولا ارتفاعا، يومئذ يتبعون صوت الداعي للمحشر اتباعا غير زائغين، فأرض المحشر تكون بساطا واحدا مستويا لا ميل فيه ولا التواء، ولا وادي فيه ولا جبل، ويتبع الناس الداعي في طريق مستقيم يؤدي بهم إليه من دون أن يكون فيه انعطاف وانحناء، أو أود وازورار، ومن دون أن يحتاجوا إلى استجلاء أو استفسار.
كذلك جعل الله كتابه واضحا بينا يهدي إلى صراطه المستقيم المستوي الوسط المعتدل، لا يدع مجالا للتأويلات الضالة الظالمة، ولا التفاصيل المقحمة الممجوجة، ولا الآراء المشتهاة المتنكبة، وكلما حصل لأحد تردد ناشئ من قلة التدبر وجد سنة النبي صلى الله عليه وسلم آخذة بيده إلى النجاة.
قالوا: وهل هذا العوج غير الضلال؟
قلت: نعم، فالذين يصدون الناس عن سبيل الله نوعان: الأول: الذين يضلون الناس عنها بأهوائهم وآرائهم فيسيرون بهم في غير سبيل الله تعالى، والثاني: الذين يصدون عنها يبغونها عوجا، فيسيرون بهم في سبيل الله تعالى وقد ملأوها جبالا ووديانا، وملتويات ومنحرفات، فيتسكعون فيها منهوكة قواهم ومثقلة أعمالهم، قال الله تعالى: “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ”. (سورة آل عمران)، وقال: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (سورة الأعراف 45، سورة هود 19)
قالوا: فكيف يبغيها الناس عوجا؟
قلت: هو مثل قوله تعالى: “وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ”. (سورة آل عمران 19)، إنهم يبغونها عوجا كما أنهم اختلفوا لما جاءهم العلم، استخدموا العلم مطية للمنصب والجاه، وحبالة لنهب الأموال وأكلها بالباطل، ومبررا لتأكيد انهم أولى بالحق والصواب من غيرهم، وأحدُّ ذكاء وأنشط استنباطا ممن سواهم، أي إن مأتى اختلافهم هو حرصهم على الزعامة الدنيوية، فتفرق العلماء في طوائف وأحزاب وآراء، يدعون الناس إليها قبل أن يدعوهم إلى سبيل الله، فأحدثوا في سبيل الله عوجا وميلا، وصدوا الناس عنها، قال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ. (سورة إبراهيم 3)
قلت: ولما أعجب العلماء المتحزبون والمتعصبون بآرائهم ومذاهبهم حصروا الصراط المستقيم في تأويلهم وجعلوا تطبيق الدين أكثر ضيقا لعامة الناس وأشد تخصصا، محتاجين إلى خبراء ممرسين محنكين يلوون الشرائع والأحكام بألسنتهم وأقلامهم. الأمر الذي يؤدي إلى وجود فقهاء متنافسين متشاقِّين وفرق مبارئة مناوئة، ولا ريب في أن ذلك من أخبث أنواع الفساد في الأرض. فقال ينهاهم عن ذلك: “وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ”. (سورة الأعراف 86).
قالوا: اكشف لنا عن ذلك المعنى بمثال من كتاب الله تعالى.
قلت: خذوا مثلا قوله تعالى: “وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين …” (سورة البقرة 67-71). فأمر الله تعالى بذبح البقرة أمر واضح جلي لا غموض فيه ولا خفاء، ولا ميل فيه ولا التواء، ولو أنهم أخذوا أي بقرة مهما كان نوعها أو لونها لأتوا ما أمر الله به، ولكنهم ضيقوا الأمر مستثيرين أسئلة لا يحتملها المقام، وهكذا المتخصصون المنطوون على أنفسهم يجعلون الأمر العام المطلق البين محاطا بقيود وشروط وتأويلات وشروح يأباها عباد الله الصالحون نابية عنها أسماعهم، كارهة لها قلوبهم ونافرة منها عقولهم.
قلت: إن العلم الذي يأتي من الله تعالى بواسطة رسله هو مراد المسلمين جميعا، بل مراد البشر كافة، لم يرد الله أن يجعله ملتبسا مشتبها مشكلا مبهما يحتاج إلى خبراء يميطون النقاب عنه ويزيحون الستار، إن الله أمر بحكم ثم أمر بالسبب المؤدي إليه، والحكم والسبب إليه كلاهما بين بيانا فيه للناس شفاء، لاخفاء فيه ولا التواء، فمثلا أمرنا بأن نذكره وأمرنا بالصلاة سببا إلى ذكره، فإذا صلى الناس كانوا مؤدين للصلاة وذاكرين له، ثم يأتي أناس فيجعلون هذا الذكر الممطلق مقيدا بقيود وشروط، ويجعلون الصلاة مقيدة بقيود وشروط لم يذكرها الله ولا رسوله، ثم يأتي أناس آخرون فيخالفونهم ويحدثون قيودا وشروطا أخرى، ثم يأتي أناس غيرهم فيخالفون الحزبين جميعا، وهكذا تتكاثر الأحزاب والطوائف ملحة على أن الذكر لا يصح إلا على طريقها الخاص وأن الصلاة لا تقبل إلا على طريقها الخاص، ويتحزبون ويتعصبون ويتشاقون ويتقاتلون، باغين سبيل الله عوجا.
قالوا: من هم أمثلة الذين يبغون سبيل الله عوجا؟
قلت: أحبار اليهود والرهبان من النصارى، ومن هذه الأمة طوائف كثيرة جعلت طرقها هي المؤدية إلى سبيل الله حاصرة الحق فيها رامية غيرها بالزيغ والضلال، ولم ترض بما بينه الله في كتابه وفي سنة رسوله، فجعلوا الذلول صعبا، والسهل حزنا، والقيم معوجا، يصدون الناس عن سبيل الله تعالى صدا.
قلت: إن الله تعالى قد خلق الناس على فطرة وأنعم عليهم بوسائل العلم من السمع والبصر والعقل، فإذا تُركوا وكتابَ الله تعالى اهتدوا إلى معانيه ومراميه، لأنه يتوافق مع فطرتهم وعقلهم، ويمكنهم أن يحكموا عليه بالصدق والصواب ويقبلوه، إن المقياس الذي يستعمل في هذا الحكم يتشارك فيه بنو آدم كلهم، فيعرفون به ما جاءهم من ربهم.
قالوا: ألا نحتاج إلى معلمين؟
قلت: بلى، ولكن المعلمين ليس واجبهم إلا بيان سبيل الله، لا أن يجعلوه عوجا.
قالوا: كيف نميز بين المعلمين الناصحين، وبين المعلمين المتبعين للأهواء؟
قلت: بفطرتكم وبعقولكم، كما تفرقون بين طبيب عالم ناصح، وبين متطبب جاهل منتهب لأموالكم. وعليكم ببذل الجهد في ذلك وإياكم والتكاسل والتخاذل، قال الله تعالى: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”.