بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ما أعظم ما استلهمته في رحلتك هذه؟
قلت: أرشدتني إلى مكامن كثيرة من الخير ودلتني على مصادر عجيبة من المواعظ والحكم، بيد أني أراني مدفوعا إلى الوقوف عند خصلة تعلو على الخصال، قالوا: ما هي؟
قلت: زرت في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الخطاط الذائع الصيت عثمان طه الحلبي الذي قد بلغ من العمر تسعين سنة، وكتب المصحف كاملا اثنتي عشرة مرة، ووُزّع من المصحف الذي كتبه لمجمّع المدينة النبوية ما يزيد على ٢٠٠ مليون نسخة في مختلف دول العالم، فوجدته على كبر سنه جادا في عمله، مقبلا عليه إقبالا، لا تشغله عنه الشواغل، ولا تصرفه الصوارف.
قالوا ما استوحيت من شيمته هذه؟
قلت: ثلاثة أمور:
1- أن يستغل الإنسان الإمكانيات المتواجدة له، وينتهز الفرص السانحة له، ولا يتقاعس عنها أو يتهاون بها، ولا يفرِّط لحظة أو يتوانى فيضيعها ويبددها تبديدا، أدرك هذا الرجل قدرته على الفن فحفظها، وأتقن الخط وبرع فيه وسما على غيره باذًّا، وسبق كثيرا من حملة الشهادات في العلوم والفنون، برَّز على الأطباء وليس بطبيب، وسما على المهندسين وليس بمهندس، وتميز على علماء الطبيعة والدين، وليس بعالم، كم من الأفراد فطروا على أهليات وكفاءات ولا يتبينونها، وكم من الأمم تتوافر في بلادها المعادن ولا تستغلها، وقوى مائية لا تنتفع بها، وأراض خصبة لا تحولها إلى المزارع والجنان.
2- أن لا يشكو مما حرم، فهذا الرجل ليس من أهل البلد المولودين فيه والناشئين، بل هو مهاجر شامي، ولكن حرمانه ما تمتع به غيره لم يثبطه عن عزيمته، ولم يُعِقْه عن هممه ومراميه، بينما أرى كثيرا من المسلمين الهنود يشكون أنهم في أقلية في بلادهم سلبوا دولتهم وملكهم، ويزدرون أنفسهم ازدراء، وينظرون إلى غيرهم من الأمم نظر الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق، والإنسان إذا صغرت نفسه في عينه صغر في معرفته وعلمه، صغر في صناعته وأدبه، صغر في مروءته وهمته، صغر في مطامحه وآماله، وصغر في جميع شؤونه وأعماله، لله در فتى يعجز قلبه أن يضم هِمَّات صدره، ولو ضمها لما ضمه صدره.
3- وأن يجِدَّ في العمل والسعي، فذلك ينبوع نجاحه، وسر تقدمه، والحياة هي حركة الروح في العمل، فإذا خلا العمل دل ذلك على أن الروح استبدت بها براثن الموت، لقد نجح من كانت حياته عبارة عن عمل صارم لا يرعوي دون غايته، فمن لم يصل إرادته بعمله كان فيلسوفا حالما، أو أديبا سابحا في الخيال، أو فنانا تتلاعب به الأماني الكاذبة، وحاشا أن يكسب المعركة المتقاعدُ عنها، أو يحقق النصر المتكاسلُ عن أسبابه، أو يتقدم في النجاح المتواني عن طرقه ووسائله، يا ويح جبان مذق اللسان يقول ما لا يفعل، ويا ويح ثياب عارية عن المحاسن فُصلت على الموتى تفصيلا.
قالوا: فما توصينا؟
قلت: قدِّروا قواكم ولا تعطلوها، واستغلوا فرصكم ولا تهملوها، واسعوا في الطلب، فما ذل الناس قاطعي صلاتهم بينابيع قواهم ومواد حياتهم إلا يوم جهلوا قدر أنفسهم ونسوا مكامن كفاءاتهم المودعة فيهم، انظروا إلى سلفكم الذين كانوا على الضد منكم، غير متعطلين تعطلكم، ولا متكاسلين تكاسلكم، ولا متلاهين تلاهيكم، فكم تركوا من بدائع العلوم والفنون، وآيات العمران والتمدن، وآثار الحضارة والثقافة، وعجائب الفتوح والانتصارات، تركوا في ذكرى الدهر خزائن وكنوزا في كل ضرب من ضروب الحكمة والتفكير والعلم والكفاح والنضال، تشهد بنبوغهم وإمامتهم، وتقضي منها أمم العالم وشعوبه عجبا، أنسيتم محمد بن القاسم الثقفي؟ قاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، فغزا قبائل الهند الثائرة، فأطفأ ثورتها، وزلزل عروش ملوك الهند وأمرائها، وكان بداية خير لهذه البلاد:
إن السماحة والمروءة والندى
لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة
يا قرب ذلك سؤددا من مولد
انتبهوا من سباتكم العميق، ولا تلوموا غيركم ولوموا أنفسكم، وابعثوا الحياة في قواكم، وفكِّروا واعملوا، وابتكروا وجاهدوا، وأبدعوا وغامروا، وانتهزوا الفرص واستغلوها، وإلا فموتوا والموت أجدر بكم.