كلمة توديع

Reading Time: 4 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

(مهداة إلى الإخوان العلماء: سهيل بن عبد الحنان، ومحمد حافظ بن نور علي، وأنور بن أبي الأمين، والأخوات العالمات: شاهناز بنت أبي جبير، وعروج بنت شاهد نديم، وفهيمة بنت مصطفى كبير، ومرزوقة بنت شعيب أحمد، ونازية بنت عبد القادر، وثمينة بنت يونس علي، بمناسبة تخرجهم في كلية إبراهيم بلندن، مقرونة بالإجازة العامة)

إخواني وأخواتي! أهنِّئكم بهذه المناسبةِ مناسبةِ يمن وسعادة وبركة وكرامة تهنئةً منبثقةً من صميم قلبي وعميق صدري، داعيا الله عز وجل أن يزيدكم علما، ويوفقكم عملا بما علمتم، ويرزقكم إخلاصا فيما تعملون. أراكم يُساوركم مَزيج من الغبطة والسرور، والحزن والكآبة، وكأن بين المتصارعَين رضاعَ ثدي أو رضاعَ كأس، وإنا لشركاؤكم فيما يساوركم أو يصارعكم، فهذا موضع يرحب فيه بالهاجرين الصارمين كما يرحب بالواصلين الآلفين، ويحتفى فيه بالذاهلين السالِين كما يحتفى بالمغرمين الهاوِين، إن كنتم مستبشرين طرِبين بنجاحكم فلسنا أقل منكم جذلا وارتياحا، فنجاحكم مترابطة وشائجه بنجاحنا، ومستقبلكم معقودة نواصيه بمستقبلنا، إن الآباء يحتفلون بنبوغ أولادهم أكثر من احتفالهم بنبوغ أنفسهم، وكذلك المعلِّمون تتهلل وجوههم في حبور وافتخار بتفوق تلاميذهم وازدهارهم وبروزهم في مجالات العلم والفن والأدب. وإن كان الكمد يعارككم والحزن ينازلكم على فراق الكلية التي أنستم قاعاتها وأفنيتها ومكاتبها مساكنين لها مسامرين، والتي ازدهتكم حسنا وطيبا وجمالا وروعة، وشيوخها الذين استقيتم من نبعهم الفياض، وارتويتم من نميرهم الصافي باسطين إليكم بالندى صباحا ومساء سحائب من علم نافع وخلق عجيب، وموظفيها الذين احتملوا كل أذى وصبروا على المشقات ابتغاء تيسير أموركم وإعانة لكم على هدفكم النبيل، فإنا كذلك على فراقكم لمحزونون، ومن شط النوى متألمون، ولوجع الفصال مقاسون.

وهذا هو دأب الحياة، تلد الأمهات أفلاذ أكبادهن، ويربينهم وينشئنهم كالئات لهم، وباذلات الأيام وساهرات الليالي من أجل إسعادهم، ثم يودعنهم توديعا يتجارَون في مضمار الحياة ويخوضون سوادها وزحامها، داعيات لهم بالنجاح وراجيات لهم كل توفيق، وإنا كذلك نودعكم مصدِّرين إياكم لمسابقة أعددناكم لها إعدادا، ومقدِّمين إياكم لمباراة هيأناكم لها تهيئة، ومن السنة المتبعة منذ عهد غارق في القدم أن الكبار حينما يودِّعون صغارهم لمغامرة يسدون إليهم عظات وحكما مستمدة من تجاربهم وخبراتهم تنفعهم في حياتهم الجديدة، وتوفِد لهم موئلا وسندا، وتُوسِع لهم حرزا وأمنا، فأزوِّدكم اقتفاءً بأثر من مضى من أولي الذكر والنهى بأربع نصائح تعلِّقونها تمائمَ في أعناقكم: الأولى: اعلموا أن ساحة عملكم التي تنتظركم ليست قرية من قرى آسيا الجنوبية، أو مدينة من مدنها، ولا هي ببطحاء مكة ولابة يثرب، أو صحراء نجد ووادي تهامة، إنها ساحة غريبة عن دينكم وحضارتكم وثقافتكم، إنها ساحة تشاركون فيها رجالا ونساء يختلفون عنكم لونا ودما ونسبا ودينا وحضارة وثقافة، إنهم ليسوا بإخوانكم ولا بأعدائكم، فاسعوا أن تؤانسوهم متعارفين متآلفين، وتتوددوا إليهم محسنين ومشاطرين أفراحهم وأحزانهم، واعلموا أن نجاحكم في أداء دوركم يتوقف على كسب ودهم واحترامهم، فلا تكرهوهم، بل أحبوهم، ولا تعاملوهم معاملة المحاربين، بل عاملوهم معاملة الأنبياء والمرسلين للمدعوين، ألا إن الصلة بينكم وبينهم هي صلة الدعوة والنصح والتعاون على الخير.

2- الثانية أن لا تظنوا أنكم صرتم علماء ومحدثين وفقهاء ومفتين، فالمسافة بينكم وبين المعارف والحقائق شاسعة، وإنما أوتيتم مفاتِح للعلم تفتحون بها كنوزه، فإياكم والقناعة والزهد في التحصيل والفضائل، بل صِلوا الليل بالنهار دائبين مجتهدين، ثابتين ومركزين على جانب اختصاصكم، فمنكم من ولى وجهه شطر القرآن الكريم، ومنكم من أحب الحديث النبوي الشريف وعلومه، ومنكم من رغب في الفقه وأصوله، ومنكم من استمتع بغيرها من الآداب والفنون، فبالغوا في التمكن من العلم أو الفن الذي عقدتم بينكم وبينه ألفة ومحبة، متشبثين بأذيال شيخ من شيوخكم تصحبونه وتلازمونه، ولأصارحكم أننا لا نفتقر إلى علماء، فقد امتلأت بهم الأرض امتلاء، وإنما ننظر إلى مختصين متفوقين يُعتمد عليهم في مواضيع اختصاصهم.

3- الثالثة أن كثرة المطالعة لاتغني عنكم شيئا حتى تتخذوا من إعمال الفكر والنظر، والروية والحزم، والعزم والإمضاء لكم عادة وديدنا، فلاتكونوا كالحمير تحمل أسفارا، بل يجب عليكم أن تستسيغوا ما تتعلمون، وأن تتعقلوا ما تدرسون، وأن تحللوا المعلومات تحليلا، مجدين مجتهدين باصرين بالراحة الكبرى والسعادة العليا التي لا تنال إلا على جسر من التعب والضنى. 4- الرابعة أن تصلحوا نفوسكم إصلاحا مطهرين إياها من الحسد والبغض والكراهية والشحناء، ومروِّضين إياها للأخلاق المرضية، غير ممزقين سبائب الحلم ولا سائرين سيرة بطر وأشر وخيلاء وفخر، واعلموا أن الصمت أفضل من كلام سوء أو فضول، فالزموا الصمت ولا تتكلموا إلا بما ينفعكم أوينفع غيركم في الدنيا والآخرة، ولا تؤذوا أحدا، وظنوا بالناس خيرا، وإن كان لكلامهم ومواقفهم سبعون محملا فاحملوها على ما حسن منها وطاب، وإن لم تهتدوا إليه، فقولوا في أنفسكم: لعل لكلام أخي محملا حسنا تقاصر فهمي دون الوصول إليه. واعلموا أنكم تحملون علم هذا الدين، وستمتد إليكم الأعناق وتشد إليكم المطايا ويتزاحم عليكم الخلق مكتسبين من علمكم وخُلقكم، يراقبونكم مراقبة رغبة منهم أن يشاهدوا الإسلام مطبقا في حياتكم، غير مقتنعين بما يستحلى من الكلمات ويستعذب من العبارات، فإن العلماء مصدر للدين، وورثة الأنبياء، فكونوا لهم خير خلف وأفضل وُرَّاث، مُقرٍّين عمود الدين في مستقره وقد أخلقت أسباب الهدى وأرثَّت، ونهلت منها الليالي وعلت، ومستجيبين لنداء المعالي والمكرمات، ومحيين سبيل الصلاح والعدل، وناهجين نهج الزهد والغنى والعفاف. إخواني وأخواتي! هذه كلمتي لي ولكم، غير مستغنين عنها، وداعين الله تعالى أن يوفقنا جميعا للتقوى والصبر وسائر الأعمال الصالحة، ويغفر لنا ذنوبنا ويرحمنا وهو أرحم الراحمين.