بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: قد أهمنا أمر.
قلت: ما هو؟
قالوا: اختلف الناس في الفقه، فمنهم من يأخذه من الفقهاء، ومنهم من يأخذه من المحدثين.
قلت: ما لكم تستوضحونني شيئا بسيطا لا خفاء فيه ولا إشكال، لو أعملتم عقلكم وفكركم لأدركتم حقيقته وأصبتم مغزاه، ألا تحترمون شيخكم فتحرصوا على حفظ وقته من الضياع؟ فإن أغلى ما أعتكف عليه هذه الأيام هو شرحي لصحيح مسلم، ولا أريد أن أشغل عنه بما تستمتعون به من حشو الكلام ولغوه.
قالوا: استبشعنا لفظك واستهجناه استهجانا، لقد آذانا ما رميت قولنا به من حشو ولغو،
قلت: وهل جزاء الإيذاء إلا الإيذاء، فلتتأذوا حتى تعرفوا مدى معاناتي فيكم.
قالوا: أعفِنا إن كنا أثقلنا عليك أو أزعجناك إزعاجا، ولكن أخبرنا عن وجه إدانتك سؤالنا كل هذه الإدانة.
قلت: هل تأخذون الهندسة من الأطباء، والطب من المهندسين، والرياضيات من علماء النفس، والنفسيات من الرياضيين، بل أتأخذون الفقه من المفسرين والمتكلمين؟
قالوا: لا،
قلت: فكيف تستسيغون أن تأخذوا التاريخ من المقننين، والقانون من المؤرخين؟
قالوا: وأنى فعلنا ذلك؟
قلت: ألم أبين لكم فيما مضى أن الحديث تاريخ، وأن الفقه قانون؟
قالوا: بلى، ولكن الذي سخرتَ منه ليس محدثا من المحدثات، بل قد وقع فيه كبار العلماء.
قلت: نعم وقعوا، وبئس ما فعلوا.
قالوا: فمن نأخذ الفقه عنهم؟
قلت: خذوا الفقه عن أهله، وأفضلهم فقهاء المدينة، وفقهاء الكوفة، ثم من حذا حذوهم واقتفى أثرهم من فقهاء سائر الأمصار.
قالوا: فما لك قدمت أهل المدينة والكوفة عليى غيرهم؟
قلت: إن المدينة هي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فنشأ أهلها على سنن راشدة وأعمال قويمة، هي بيان لمعاني القرآن الكريم، وأخذها فقهاؤها وأفتوا بها وتناقلوها، وتشبهها الكوفة في توارث السنن والأعمال، إذ انتقل إليها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه معلما ومفتيا وفقيها، وقد رضيه لأهل الكوفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأثنى عليه وأشاد بعلمه وفضله، كما أثنى عليه ونوه بشأنه ورفع ذكره غيره من الصحابة من الواردين إلى الكوفة والنازلين بها حتى قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: رحم الله ابن أم عبد فقد ملأها علما، وأنشأ ابن مسعود أصحابا له أجلة أخذوا عنه وعن عمر بن الخطاب، وعائشة أم المؤمنين، وعلي بن أبي طالب، وحذيفة بن اليمان، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم رضي الله عنهم، حتى صار للكوفة مذهب مستقل في الفقه له خصائصه ومزاياه، واشتهر المذهبان مذهب أهل المدينة ومذهب أهل الكوفة بين العلماء دارسين لهما ومتناقلين، وموافقين لهما ومخالفين، ومؤيدين لهما ورادِّين.
قالوا: فما تقول في البصريين والمكيين والمصريين والشاميين؟
قلت: لم يكن لأهل البصرة ومكة ومصر والشام مذاهب مستقلة، ولم ينشأ أهلها على سنن وأعمال يمتازون بها عن غيرهم، ولكن كان فيها فقهاء أخذوا عن فقهاء المدينة والكوفة، فمنهم من غلبت عليه نزعة أهل المدينة، ومنهم من غلبت عليه نزعة أهل الكوفة، ومنهم من جمع بينهما توفيقا وتأليفا، ومن كبار الفقهاء في البصرة الحسن، وابن سيرين، وقتادة، وأيوب، وحماد بن زيد، وفي مكة عطاء بن أبي رباح، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد الزنجي، وفي مصر الليث بن سعد، وعبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، وعبد الله بن لهيعة، وفي الشام أم الدرداء، وأبو مسلم الخولاني، وأبو إدريس الخولاني، ومكحول، والأوزاعي.
قالوا: ما منبت فقهاء الحديث؟
قلت: البصرة، وهي مدينة لم ترث سننا وأعمالا توارثها أهل المدينة، ولم تشهد فقهاء الصحابة والتابعين الذين حظيت بهم الكوفة، وظهر فيها علماء استفادوا من الكوفيين والمدنيين، وتنازعهم الاتجاهان الكوفي المدني تنازعا شديدا، فمنهم من مال إلى أهل الكوفة كابن سيرين وشعبة ويحيى القطان، ومنهم من مال إلى أهل المدينة كالحسن وأيوب وعبد الرحمن بن مهدي، رحمهم الله تعالى، وكأن ابن مهدي مؤسس مذهب الفقه الحديثي، لازم سفيان الثوري واختص به، ثم رحل إلى المدينة وأخذ عن مالك وغيره من علمائها، ومال إلى مالك مع مخالفته إياه فيما ترك من الأحاديث والآثار، وشدد على الرجوع إلى الحديث والأثر، وتلاه الشافعي، وهو من مكة قرينة البصرة، إذ لم تكن بها سنن وأعمال متوارثة، وكان قد أخذ عن أهل المدينة والكوفة، ثم دخل البصرة وجالس عبد الرحمن بن مهدي وأعجب بمذهبه، وألف رسالته البديعة الرائعة، واحتج لهذا المذهب الجديد احتجاجا قويا، وجعل الحديث أصلا للدين وشدد على إخضاع الفقه له تشديدا لم يسبق إليه.
قالوا: فما مذهب علماء المدينة والكوفة قبل الشافعي؟
قلت: هو المذهب الطبيعي الذي تشهده العقول، فأهل المدينة والكوفة جعلوا القرآن والسنة والعمل والإجماع والقواعد الكلية والقياس أسسا لاجتهادهم وفقههم وفتواهم.
قالوا: فما للحنفية والمالكية لم يحافظوا على مذهبهم؟
قلت: قد كانت دعوة الشافعي إلى العمل بالحديث دعوة عزيزة مدعومة بحجج قاهرة ودلائل باهرة، صادفت آذانا صاغية وعقولا بها مقتنعة وقلوبا لها خاضعة، فتبعه عامة أهل الحديث وكثير من الفقهاء، وساعدهم على ذلك ما في القلوب من محبة النبي صلى الله عليه وسلم وإجلال لحديثه، فوجد الحنفية والمالكية أنفسهم في موضع الدفاع، وبحثوا عن أحاديث وآثار تؤيد أقوالهم وتعضد آراءاهم، فملأوا كتبهم بالضعاف والشواذ والمناكير، ولما طعن فيهم المحدثون قالوا: لنا أصول مختلفة عنكم في التصحيح والتضعيف، فجاؤا بعذر كان شرا، وزاد موقفهم ضعفا ووهنا.
قالوا: فما تنصح الحنفية والمالكية؟
قلت: أن يدرسوا الموطأ وكتب أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، ويستوعبوا مناهجهم في بسط المسائل والاستنباط والاستدلال، ثم يشرحوها للناس شرحًا أمينا صادقا، فالحنفية والمالكية يحتاجون إلى شرح مذاهبهم وبيانها، لا إلى الدفاع عنها والاحتجاج لها بما لم يحتج به أئمتهم الأولون من هذه الأحاديث والآثار التي طعن فيها المحدثون، وأصابوا في طعنهم.
قالوا: فما موقفك مما ذهب إليه الشافعي؟ وهل كان للأمة فيه من نفع؟
قلت: نعم، نفع كبير، فالشافعي حمى الإسلام من أن يكون محليا، إسلام مدني، وآخر كوفي، وآخر مصري، وآخر شامي، وكان على الحنفية والمالكية أن يستفيدوا من منهج الشافعي، لا أن يغيروا به مذاهبهم ويشوهوها تشويها، كان الواجب عليهم أن إذا نسب قول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين أن يتحققوا منه في ضوء أصول الشافعي ويطوروها كما فعله المحدثون ولا سيما الشيخان البخاري ومسلم.
قالوا: فما توصينا به؟
قلت: إياكم أن تجعلوا الحديث أصلا من أصول الدين، فالأصول ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك وأمثالهما من علماء الأمصار، وهي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإجماع والقواعد الكلية والقياس، وإياكم أن تبدعوا أصولا للحديث والرواية، فأصول الحديث هي ما قرره الشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم وسائر أهل الحديث، فخذوا الفقه من الفقهاء، والحديث من المحدثين، ولا تلبسوا بينهما تلبيسا.
قالوا: قد بينت الأمر بيانا شافيا.
قلت: لا تطروني، ولكن احمدوا الله الذي سخرني لتعليمكم، والحمد له أولا وآخرا.