فتن ولا ابن تيمية لهن

Reading Time: 3 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

مضت أكثر من سبعة قرون على وفاة الإمام ابن تيمية (ت 728هـ) رحمه الله تعالى ولم يولد في العالم العربي والإسلامي ابن تيمية آخر، أأصاب حران عقم؟ لا، فنساؤها منجبات، أم تلاهت الأمهات عن رعاية أولادهن؟ لا، هن راعيات مربِّيات، أم أغلقت مدارس دمشق وجوامعها؟ لا، هي مفتوحة على مصاريعها، أم أجدبت أراضي العرب؟ لا، بل هي طيبات مخصبات، أم عقرت ربات بيوت العجم؟ لا، بل هن والدات، أم أمحلت منابت فارس والهند وأفغانستان؟ لا، بل هي ملقِّحات منتجات، فما أعياهن أن يتمخضن عن ابن تيمية آخر منشئات له إنشاء؟

طعن الناس في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسخروا من الدين أصوله وفروعه، وشرائعه ومناهجه، واستهزؤوا بالإيمان والإسلام إجمالا وتفصيلا، واستخفُّوا بشأن الأنبياء والمرسلين أئمة الهدى المصطفين الأخيار، وقذفوا في أعراض الصحابة والصحابيات رضي الله عنهم وهتكوا أستارهم، واستحلوا حرمات شعائر ملة الخليل وسائر معالم الطريق.
ووقعوا في أصح الكتب بعد كتاب الله، وحملوا الإمام البخاري مسؤولية تخلف المسلمين، وقدحوا في مصادر الحديث أسانيدها ومتونها، وأثاروا حولها شكوكا وشبهات راجت لدى ضعاف الإيمان ونالت عندهم القبول.

وانتشرت البدع والمحدثات، وتولدت منهن بدع غريبات ومحدثات مضحكات، وحاكى أبناء الإسلام ضلالات الشعوب والأمم، ومزجوا بين الصافي والكدر، وخلطوا بين الحق والباطل، وأصلحوا بين الصدق والكذب، ولفقوا بين الظلمات والنور.

واشتد عضد التفرق والتشرذم، فصار الناس يتفاخرون بانتماءاتهم الطائفية دون ولاء للإسلام، يتجادلون على أسماء سموها بل ويتقاتلون عليها، وقد تسرب النفاق والدجل والإلحاد إلى قلوبهم، وتغلغل التحاسد والتباغض والتحاقد في أحشائهم، وتوغل التشاحن والتلاحي والتعادي في نفوسهم.

وتعززت المذاهب الكلامية والعقدية والصوفية، ورفعت الأهواء والفلسفات الباطلة رؤوسها، وقضي على الاجتهاد وشاع التقليد، فلا نظر ولا تفكر، ولا إعمال رأي ولا تدبر.
نعايش الفتن التي شهدها العالم الإسلامي في نهاية القرن السابع، بل وقد تفاقمت شراسة، وضعف أهل الإسلام ووهنوا، ولا يهم علماءه إلا فرقهم التي ينتمون إليها ومذاهبهم التي يتباهون بها، وحرموا الفكر والنظر، فيستوردون بل ويسترقون من أعدائهم فلسفاتهم وأفكارهم وآراءهم في العقائد والاجتماع والاقتصاد والسياسة، لا يرجعون إلى كتاب الله وسنة ورسوله، ولو رجعوا إليهما لوجدوا فيهما حلولا لمشاكلهم، ومعالجات لمعضلاتهم، وطبا لأدوائهم وأمراضهم، وشفاء لما في الصدور.

فأين ابن تيمية؟ أين الذي سمع وأسمع، ودرَّس وأفاد، وأفتى وأجاب، وكتب وأجاد، وخطب وجاهد؟ أين الذي ألِفته المدارس والجوامع، وصادقته المحاريب والمنابر، وأنِسته المحابس والسجون، وعرفته ساحات الوغى والحروب؟ أين صاحب التفسير، وكتاب الإيمان، وكتاب الاستقامة، والمقدمة في أصول التفسير، ومنهاج السنة النبوية، ودرء تعارض العقل والنقل، والرد على المنطقيين، وكتاب تلبيس الجهمية، والعقيدة الواسطية، والصارم المسلول، واقتضاء الصراط المستقيم، والسياسة الشرعية، والفتاوى الكبرى؟

أيا ابن تيمية! لقد رضي المسلمون عربا وعجما بوضعهم المشين، وانحطوا إلى حضيض التقليد وأخلدوا إليه، وقنعوا بالذل والهوان، وفقدوا غيرتهم وحميتهم، وخفتت أصواتهم، وتبلدت عقولهم وأفكارهم.

يا رب ابن تيمية! ارحمنا، وابعث فينا من جديد ذلك العلم الشامل العميق، ذلك الحذق في القرآن وتفاسيره، وتلك الإمامة في الحديث وعلومه، وذاك التقدم في الفقه أصوله وفروعه، وتلك البصيرة النافذة في أمور البدع والمحدثات وما ينتمي إليها من فرق وطوائف، وذلك التحكم في الكلام ومذاهبه، وذلك الاضطلاع الوافي من الفلسفات والفنون العقلية النظرية، وأحي فينا ذلك الفهم الراسخ القويم، والعقل الثائر الحصيف، والفكر المدبر الحكيم، والورع التام العجيب، يا ربنا! عقمت الشام والعراق ومصر وسائر بلاد العرب، وأجدبت خراسان وماوراء النهر والهند، ولكن خزائنك لا تنفد، وبركاتك لا تنقطع، وخيراتك لا تعدم، فارحمنا يا أرحم الراحمين! وأنعم علينا يا أكرم الأكرمين ويا ذا الفضل المبين والإحسان العميم!