بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ما صلاة الوتر؟
قلت: هي من قيام الليل، قال تعالى: “ومن الليل فتهجد به نافلة لك” (سورة الإسراء 79)، و”يا أيها المزمل قم الليل قليلا” (سورة المزمل الآية 1)، وجعلها في آخر الليل، وهي أقل ما يجب على المسلم أن يقوم من الليل، وجعلها وترا كما أن المغرب وتر، ليتساوى طرفا الليل، ورخص في أدائها في أول الليل تيسيرا على الضعفاء من المسلمين.
قالوا: ما حكم الوتر؟
قلت: هو حق،
قالوا: جعلت الوتر فرضًا، وهو قول لم تُسبق إليه،
قلت: لم أجعله فرضًا، ولكني ألحقته به، وقد عبر عنه الإمام أبو حنيفة بالواجب، وبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالحق، وسائر العلماء بالسنة، لأنهم علِموه بالسنة، ولكنهم أكدوا عليه ما لم يؤكدوا على غيره، ورأوا قضاءه على من فاته.
قالوا: ما دليلك على حقيته ووجوبه؟
قلت: الآيتان السابقتان، وقوله تعالى: “ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم” (سورة الطور الآية 49)، وأخرج أبو داود وغيره عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، وروي مثله عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في المستدرك وغيره بأسانيد مختلفة، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقضون الوتر ويأمرون بقضائه، وذلك دليل الوجوب، وأخرج الحاكم في المستدرك عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا أصبح أو ذكره، وصححه الحاكم والذهبي، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن جمع من الصحابة والتابعين وجوب الوتر.
قالوا: لم اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على الصلوات الخمس دون الوتر في أحاديث كثيرة صحيحة؟
قلت: لأن الوتر من قيام الليل، وقد يشق على كثير من الناس النهوض له والانتباه من النوم، فخفَّفه ظاهر التخفيف رحمة بهم، ومن ثم عبر العلماء عنها بالحق أو الواجب أو السنة.
قلت: والإشكال وارد على غيرها، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن صلاة العيدين فرض عين، وذهب بعضهم إلى أنها فرض كفاية، وذهب آخرون إلى أنها واجب أو سنة، وذهب جماعة إلى فرضية صدقة الفطر، وذهب جماعة إلى فرضية العمرة، فكما أن صلاة العيدين ليست زيادة على الصلوات الخمس، وصدقة الفطر ليست زيادة على الزكاة، والعمرة ليست زيادة على الحج، كذلك وجوب الوتر ليس زيادة على الصلوات الخمس.
قالوا: كم ركعة هي؟
قلت: هي ثلاث ركعات، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل فيصلي ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم يركع ركعة توتر له ما صلى، أي كان يصلي ثمان ركعات، ثم ثلاث ركعات بقعدتين وترا، أخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة”، فكانت ثمان ركعات من التهجد، وثلاث ركعات من الوتر، وهن كلهن من قيام الليل. ومن الناس من روى ثلاث عشرة ركعة مضيفا ركعتي الفجر إليهن، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتا الفجر، وقال القاسم في حديثه: “ورأينا أناسًا منذ أدركنا يوترون بثلاث” (صحيح البخاري، أبواب الوتر، باب ما جاء في الوتر)، وأخرج أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى من الوتر سبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة قل هو الله أحد، وأخرج ابن أبي شيبة الإيتار بثلاث ركعات عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأنس بن مالك، وعلي بن أبي طالب، وأبي أمامة، وجابر بن زيد، وعلقمة، وسعيد بن جبير، ومكحول، وأبي العالية رضي الله عنهم.
قالوا: هي بتسليمة أو تسليمتين؟
قلت: هي بتسليمة، فلم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفرد ركعة قط، فكل ما ورد في الوتر من حديث مجمل حمل على المفصل، ويكون معناه يقعد في آخر الركعتين، ثم يقوم ويصلي مضيفا إليهما ركعة ثالثة، ثم يسلم، أخرج النسائي في سننه، باب كيف الوتر بثلاث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يسلم في ركعتي الوتر، وأخرج الحاكم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسلم في الركعتين الأوليين من الوتر، وفي لفظ آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يسلِّم في آخرهن. قال الحاكم: وهذا وتر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعنه أخذه أهل المدينة، وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود قال: الوتر ثلاث ركعات كصلاة المغرب، وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب أنه أوتر بثلاث ركعات لم يفصل بينهن بسلام، وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس أنه أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن، وعن الحسن البصري، قال: أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث، لا يسلَّم إلا في آخرهن، وأخرج عن مكحول أنه كان يوتر بثلاث لا يسلِّم إلا في آخرهن، وعن سعيد بن المسيب قال: لا يسلّم في الركعتين من الوتر، وعن حماد قال: نهاني إبراهيم أن أسلم في الركعتين من الوتر، وعن أبي إسحاق قال: كان أصحاب علي وأصحاب عبد الله لا يسلمون في ركعتي الوتر.
قالوا: بقعدة أو قعدتين؟
قلت: بقعدتين، فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم قط أنه صلى صلاة لم يجلس في الثانية منها،
قالوا: أو لم يرو عنه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن؟
قلت: اختلف في لفظه، فقد أخرج النسائي في سننه، باب كيف الوتر بسبع عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن، وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخرها، فهو حديث معلول مضطرب مختلف فيه لايحتج بمثله، وقد بين العلماء الاختلاف فيه، وهو معارض لحديث عائشة وحديث ابن عباس الذين أخرجهما الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما بأسانيد ثابتة قوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، يجلس على كل ركعتين منهما، فهذا هو الصحيح الثابت، ولعل معنى حديث “لا يقعد إلا في آخرهن”، أي لا ينقطع عن صلاته بكلام واشتغال بأمر دنيوي، بل كان يقعد، ثم يستمر، والله أعلم بالصواب.
قالوا: أين موضع القنوت؟
قلت: في الركعة الأخيرة قبل الركوع،
قالوا: من الناس من جعل القنوت بعد الركوع وخصه بزمن،
قلت: ذلك قنوت النازلة، أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت، فقال: قد كان القنوت. قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قال: فإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت: بعد الركوع، فقال: كذب، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا، أراه كان بعث قوما يقال لهم القراء، زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم، وأخرج أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي بن كعب رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت قبل الركوع، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، والأسود، وإبراهيم، وسعيد بن جبير أنهم كانوا يقنتون قبل الركوع، وأخرج ابن أبي شيبة عن علقمة أن ابن مسعود وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع.
قالوا: هل يكبر للقنوت برفع اليدين؟
قلت: نعم، أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا فرغ من القراءة كبَّر ثم قنت، فإذا فرغ من القنوت، كبَّر ثم ركع، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف أن عبد الله بن مسعود كان يرفع يديه إذا قنت في الوتر، وهو مرفوع حكما، لأنه مما لا مجال فيه للاجتهاد، ومن ثم قال إبراهيم النخعي، كما أخرج ابن أبي شيبة وغيره: إذا أردت أن تقنت فكبِّر للقنوت، وكبِّر إذا أردت أن تركع، وقال: ارفع يديك في القنوت، وأخرج ابن أبي شيبة عن شعبة قال: سمعت الحكم وحمادا وأبا إسحاق يقولون في قنوت الوتر: إذا فرغ كبَّر، ثم قنت.
قالوا: ألم يذهب علماء إلى خلاف ما بينت؟
قلت: بلى،
قالوا: فما تقول فيهم؟
قلت: اجتهدوا، فلهم أجران إن أصابوا، وأجر إن أخطأوا، ولا تشددوا في الأمور الفرعية الجزئية، ولا تفرقوا بين المسلمين، والزموا القنوت والخشوع في صلاتكم، وهما الأصلان الذان لا ينبغي الإعراض عنهما، قال تعالى: “وقوموا لله قانتين”، وقال: “يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين”، وقال: “قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون”.