بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ما جمال صحيح البخاري؟
قلت: ظاهر جماله ساطع باهر ترتد منه الأطراف وتندهش له الألباب فلا أقدر على وصفه، وباطن جماله دقيق لطيف فلا أتقصاه، وما من عالم أو فقيه إلا ويقصر عن مداه، وذاك الذي زادني من هواه، ونمَّى في من التصابي كنمو المشيب عند انقضاء الشباب.
قالوا: نحسب الهاوين للمهاوي الغربية والمفتونين بالمفاتن المادية يحملون كلامك على الغلو والشطط،
قلت: لا يهمنكم عمى العميان وإنكار السفهاء، فمن البلية إرشاد من لا يرعوي عن جهله، وخطاب من لا يفهم، ترونهم أصغر ما ترونهم وهم ينطقون، وهم أكذب الكاذبين ويُقسمون، وفعال من تأسى بالكرام أكرم، وفعال من استعبدته الأعاجم أعجم.
قالوا: علمنا أنك لا تحيط به روعة وبهاء، فأخبرنا عن بعض ما انكشف لك من قسامة هذا الكتاب وملاحته،
قلت: سأحدثكم عن ثلاث نواح من جماله،
قالوا: ما هي؟
قلت:
الأولى: براعته في ترتيب كتبه وأبوابه، وهو ترتيب فطري عقلي بديع، وتنسيق علمي منطقي أنيق، فقدّم الوحي، تنبيها منه على مصدر كتابه السامي، وارتفاعه عن المعارف البشرية والعلوم الإنسانية ارتفاعا، ثم أتى بكتاب الإيمان فإنه شرف بني آدم وكرمهم، وبه يمتازون عن الحيوانات والبهائم، وأتبعه بكتاب العلم، لأن عبادة الله تعالى لا تصح إلا بعلم أوامر التي أنزلها على رسله وأنبيائه المعصومين، ثم ذكر الأعمال، وأفضلها العبادات المحضة، وأجمعها الصلاة، ولا يتوصل إليها إلا بالطهارة، فقدمها، وهكذا إلى آخر الكتاب.
والثانية: بديع صنيعه في افتتاح الكتب وختمها، فاستهل الصحيح بحديث النية لحث نفسه وسائر قارئيه على إخلاص العمل لله تعالى، وآخره حديث “كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان” تلميحا منه إلى أن العمل إذا كان لله فإن القليل منه كثير عند الله تعالى، ولعله أشار إلى أن كتابه وإن كان صغير الحجم فإن الإخلاص سيرفعه، وحذف من حديث النية أحد وجهي التقسيم مجانبة لتزكية نفسه، قال الحافظ ابن حجر: إن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون قصده القربة أو لا، فلما كان المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة فرارا من التزكية، وبقى الجملة المتردد المحتملة تفويضًا للأمر إلى ربه المطلع على سريرته المجازي له بمقتضى نيته، وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لآخر حديث في الكتاب: وقال شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني في كلامه على مناسبة أبواب صحيح البخاري الذي نقلته عنه في أواخر المقدمة: لما كان أصل العصمة أولا وآخرا هو توحيد الله فختم بكتاب التوحيد، وكان آخر الأمور التي يظهر بها المفلح من الخاسر ثقل الموازين وخفتها فجعله آخر تراجم الكتاب، فبدأ بحديث ” الأعمال بالنيات ” وذلك في الدنيا، وختم بأن الأعمال توزن يوم القيامة، وأشار إلى أنه إنما يثقل منها ما كان بالنية الخالصة لله تعالى، وفي الحديث الذي ذكره ترغيب وتخفيف وحث على الذكر المذكور لمحبة الرحمن له والخفة بالنسبة لما يتعلق بالعمل والثقل بالنسبة لإظهار الثواب، وجاء ترتيب هذا الحديث على أسلوب عظيم وهو أن حب الرب سابق وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال ثم بين ما فيهما من الثواب العظيم النافع يوم القيامة انتهى.
وختم باب بدء الوحي بقصة هرقل، وفي آخره: “فكان ذلك آخر شأن هرقل”، يقول الحافظ ابن حجر: “لما كان أمر هرقل في الإيمان عند كثير من الناس مستبهما، لأنه يحتمل أن يكون عدم تصريحه بالإيمان للخوف على نفسه من القتل، ويحتمل أن يكون استمر على الشك حتى مات كافرا، وقال الراوي في آخر القصة فكان ذلك آخر شأن هرقل، ختم به البخاري هذا الباب الذي استفتحه بحديث الأعمال بالنيات كأنه قال إن صدقت نيته انتفع بها في الجملة، وإلا فقد خاب وخسر. فظهرت مناسبة إيراد قصة ابن الناطور في بدء الوحي لمناسبتها حديث الأعمال المصدر الباب به. ويؤخذ للمصنف من آخر لفظ في القصة براعة الاختتام، وهو واضح مما قررناه.
وختم كتاب الإيمان بحديث النصح لكل مسلم، يقول الحافظ ابن حجر: ختم البخاري كتاب الإيمان بباب النصيحة مشيرا إلى أنه عمل بمقتضاه في الإرشاد إلى العمل بالحديث الصحيح دون السقيم، ثم ختمه بخطبة جرير المتضمنة لشرح حاله في تصنيفه فأومأ بقوله “فإنما يأتيكم الآن” إلى وجوب التمسك بالشرائع حتى يأتي من يقيمها، إذ لا تزال طائفة منصورة، وهم فقهاء أصحاب الحديث. وبقوله “استعفوا لأميركم” إلى طلب الدعاء له لعمله الفاضل. ثم ختم بقول “استغفر ونزل” فأشعر بختم الباب. ثم عقبه بكتاب العلم لما دل عليه حديث النصيحة أن معظمها يقع بالتعلم والتعليم.
والثالثة: حذقه في التمييز بين المواضع المحفوظة في المتون وغير المحفوظة، قال البخاري في الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري، قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم يعني الفقير لحاجة فيقولون ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة. علق هذا الحديث لأن عطية بن قيس الكلابي ليس على شرطه، ولم يخرج له إلا تعليقا في هذا الموضع الواحد، وقد خولف في أمر المعازف، فاستشهد به البخاري في أمر الخمر، ولم يستشهد به على حرمة المعازف، إذ لم يصح شيء في هذا الباب، قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب “الأحكام”: لم يصح في التحريم شيء. وقال ابن حزم في المحلى: ولا يصح في هذا الباب شيء أبداً، وكل ما فيه موضوع.
وقال البخاري في الجهاد، باب كتابة الإمام الناس: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس، فكتبنا له ألفا وخمس مائة رجل، فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمس مائة، فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف. حدثناعبدان عن أبي حمزة عن الأعمش فوجدناهم خمس مائة. قال أبو معاوية: ما بين ست مائة إلى سبع مائة.
وقال مسلم في الإيمان: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ – وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ – قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَحْصُوا لِي كَمْ يَلْفِظُ الإِسْلاَمَ. قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم! أَتَخَافُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ مَا بَيْنَ السِّتِّمِائَةِ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ؟ قَالَ: إِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ أَنْ تُبْتَلَوْا. قَالَ: فَابْتُلِينَا، حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا لاَ يُصَلِّي إِلاَّ سِرًّا.
اختلف سفيان الثوري وأبو معاوية الضرير، وهما أوثق أصحاب الأعمش، في العدد، فرجح البخاري حديث الثوري، ورجح مسلم حديث أبي معاوية، والذي يقوي اختيار مسلم أن أبا معاوية تابعه عبد الله بن نمير عند أبي نعيم (375)، وسليمان بن قرم عند البزار (2665) في العدد وفي لفظ “أحصوا”، ويقرب منهم ما رواه أبو حمزة محمد بن ميمون عند البخاري وأبي عوانة (300)، ويحيى بن سعيد الأموي عند الإسماعيلي، وأبو بكر بن عياش، فقالوا: خمسمائة.
ومن دقة نظر البخاري أنه لم يستشهد بحديث سفيان إلا على الكتابة، فلم يورده في موضع آخر، وليس بين اللفظين “أحصوا” و”اكتبوا” كبير اختلاف، فقد يعبر عن أحدهما بالآخر.
وقال البخاري في العلم، باب الخروج في طلب العلم: ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد. هو حديث أخرجه المصنف في الأدب المفرد وأحمد وأبو يعلى في مسنديهما من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني عن رجل حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرا ثم شددت رحلي، فسرت إليه شهرا حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب. فقال: ابن عبد الله ؟ قلت: نعم. فخرج فاعتنقني. فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن أموت قبل أن أسمعه. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله الناس يوم القيامة عراة غرلًا بُهمًا. قال: قلنا: وما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار، أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حقٌّ، حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد من أهل النار عنده حق، حتى أقصه منه، حتى اللطمة قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عزَّ وجلَّ عراة غرلًا بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات.
وقال البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له: ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وادعى بعض المتأخرين أن هذا ينقض القاعدة المشهورة أن البخاري حيث يعلق بصيغة الجزم يكون صحيحا وحيث يعلق بصيغة التمريض يكون فيه علة، لأنه علقه بالجزم هنا، ثم أخرج طرفا من متنه في كتاب التوحيد بصيغة التمريض فقال: ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “يحشر الله العباد فيناديهم بصوت” الحديث. وهذه الدعوى مردودة، والقاعدة بحمد الله غير منتقضة، ونظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا فإنه حيث ذكر الارتحال فقط جزم به لأن الإسناد حسن وقد اعتضد. وحيث ذكر طرفا من المتن لم يجزم به لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو اعتضدت. ومن هنا يظهر شفوف علمه ودقة نظره وحسن تصرفه رحمه الله تعالى.