بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
سلامًا عليك يا بيوت الله! سلامًا من رُوَّادك، المشتاقين إلى غيوث منك صادقة مواعدها، وسحائب من الرحمات تنهل سواكبها، وكتائب من المبشرات تزجى مواكبها، سلامًا على بقاع أفنيتها مشهودة، ومعاهد ظلالها ممدودة، ودور بالذكر والوعظ معمورة، ومقامات بالسكينة والطمأنينة مغمورة، ومرابع بالفيوض زاخرة، ومَغَانٍ لها أنوار زاهرة، وسلامًا على أئمتها وشيوخها المغذِّين المربِّين، وعلى مُصلِّيها الأتقياء الصالحين، الراكعين الساجدين، القانتين الخاشعين، وسلامًا على إخوانٍ مزيني المحاريب والمنابر، وشبابٍ فيها كالطيب المتضوع من المجامر.
تمضي أيام ولا نحدث لكِ زيارة، ونبيت الليالي وعزائمنا عن قصدكِ منبترة، فيا لبؤس رعاة المودة والوصل! لقد كذب من زعم أننا سلونا عنك سُلوًّا، بل ما زادنا البَون إلا في حبك تماديا، ألا هل من مبلغٍ تحياتنا إليك، وقائل لك: كل المشارب مذ هجرتِ ذميم.
وما أرانا فُرِّق بيننا وبينك، وحيل بيننا وبين حرم الله وحرم رسوله والمسجد المبارك حوله، إلا لذنوب منا وآثام تعمدناها، عصينا رب العالمين، وكفرنا بنعمه وأنكرنا آلاءه، وجهلنا بحقوقه علينا، فاستوجبنا سخطا منه وغضبا، وصُدِدنا من أن نلوذ بمعاقل نعمته، وكُنُف حمايته، وحصون كفايته.
إن إتيانك يا أيتها المساجد! يغسل الأوزار ويمحو الذنوب، كنا نتوضأ ونخرج من بيوتنا آمِّيك تُحَطُّ عنا الخطايا، ونُرفع درجات، ثم ندخلك نستفتح مولاكِ أبواب رحمته، ونُهدي إلى عباده الصالحين تسليمات، ونتلقى منهم تحيات زاهيات طيبات، وننتظر الصلاة وكأننا في صلاة، أجور على أجور ومثوبات دونها مثوبات، والملائكة يغشوننا والسكينة تنزل علينا، تشحن قلوبنا بإيمان ويقين، يا بيوت الله! إن لكِ طلعات لا تمل، وغررا لا تكره، وصفحات لا تقلى، وواضحات لا تعقى، يا لشقائنا إذ حُجِبنا عنها، فتغيرت بهجتنا، وأخلقت جدتنا، وخمد بهاؤنا، وزال ضياؤنا، كنا نغرف من الأنهار والبحار، وصرنا ننحت من الصخور والأحجار، وما مثلنا إلا كمثل النبات يمتص حياته من أرضه بجذوره، فإن احتث منها ذبل ومات، صُرفنا عن المساجد وكأن سلك حياتنا قد انقطع انقطاعا.
نحن بين أهلينا وذوينا، والمرء يفرح بأن يكون بين أحبته وأولاده، ولكنا لا نحس بذلك الفرح، وما السعادة والسرور إلا إذا كانت في القلوب طمـنأنينة، وأنى لمفارقك أن يطمئن، وأنى للنائي عنك أن يسعد بمن حوله، كنا إذا الشدائد أرهقتنا، وإذا الملمات ألمت بنا، وإذا الكربات زعزعتنا، أوينا إليك فزعين، واعتصمنا بك جزعين، فيا لحنيننا إلى البركة التي مضت، والرحمة التي ولَّت!
ربنا! إننا مخطؤون وآثمون، استوجبنا كل عقاب، وما عقابك إيانا إلا عدلا منك، نسألك متضرعين إليك أن ترفع عنا هذا البلاء، وتأذن لنا بالدخول في بيوتك، فإنها مرابع أجسادنا، ومراتع قلوبنا، ومنابع قوانا، نشتاق أن نتشمم ريَّاها، وننشق صباها، ونحتمي بحماها، إننا نازعون إليها صابُّون، ومتشوفون إليها حانُّون، عقولنا متَّلهة وقلوبنا مشغولة، لا تعاقبنا بإغلاق أبوابك دوننا، فلا نعلم بابا دون بابك.
مولانا! لا صبر لنا على نأي الحبيب القريب، وما لنا عن بيوتك غنى، ولا عن مساجدك مسلاة، فما يزيدنا حبها إلا جوى، وكل مصيبات الزمان هيِّنة الخطب غير فراقها، إننا متطلعون إلى رسالة منك فيها وعد بالدخول عليك، وبشارة بالوصول إليك، نستعطفك بقلوب باكيات، وعبرات سافحات، وزفرات لافحات، وهل لنا غيرك من عظيم نستدفع به العظائم، وهل لنا سواك من كريم نستدر به المكارم، فاعف عنا وارحمنا يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين!