بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد الانتهاء من الجلسة العامة الأولى انتقلنا إلى مبنى كلية العلوم الشرعية، حيث صلينا الظهر والعصر، وتناولنا الغداء، ثم حضرنا الجلسة الثانية للمؤتمر، واستمعنا إلى بعض المشاركين.
حفل استقبال وعشاء:
رجعت إلى الفندق قبل المغرب، واسترحت قليلا، وشهدت الساعة الثامنة حفل استقبال وعشاء فخم أقامه سماحة المفتي أحمد الخليلي حفظه الله تعالى على شرف الضيوف والمشاركين في المؤتمر بمبنى كلية العلوم الشرعية بالخوير.
جلست على المائدة بجانب سماحة المفتي الخليلي وجانب أخينا الفاضل الدكتور كهلان الخروصي، سعيدا بالتبرك بالكريمين، وقد شاركنا على المائدة بعض كبار الضيوف، منهم العالم الشيعي المعتدل حسين أحمد الخشن من المعهد الشرعي بلبنان، ومن مؤلفاته: المرأة في النص الديني، وأبحاث حول السيدة عائشة، ومع الشباب في همومهم وتطلعاتهم، وحقوق الطفل في الإسلام، والإسلام والبيئة.
جمعت الطاولة التي أنا فيها بين المذاهب العقدية: الشيعية والسنية والإباضية، والمدارس الفقهية: الحنفية والمالكية والشافعية، تجاذبنا طُرف الحديث وأطرافه، وتداولنا نُخب الفكر وأصنافه، وتناولنا مسائل العلم الزكية وقضاياه السنية، مستمتعين بالمآكل الشهية والمشروبات الهنية، ومُرضي الرحمن بتوادنا والتصافي، وطاردي الشيطان من أن يوسوس في صدورنا وينزغ بيننا بالشرور والمعاصي، وما أكثر ما يجمع المسلمين على كثرة طوائفهم وتشتت مذاهبهم، فلا بارك الله فيمن يستثير الخلافات والنزاعات، ولا تهمه إلا المجادلات والمحاربات، ولا يجني إلا زيادة في التباغض والتعادي بين أبناء الأمة الواحدة، والله يعلم مدى سروري وفرحي حين أرى المسلمين يتحابون ويتآلفون ويتوافقون، ومدى بؤسي وحزني حين أراهم يتباغضون ويتدابرون ويتخالفون.
ولقد أسعدنا سماحة المفتي بتذكيره إيانا بربنا تبارك وتعالى، والحث على توحيده بالعبودية والعبادة، واستشهاده الدقيق بالآيات الكونية والقرآنية على المعنيين الذين لا يساويهما معنى في السمو والشرف، في كلمات أثرت فينا تأثيرا مستهوية قلوبنا ومستأسرة أفئدتنا، وزادتنا إيمانا بربنا تعالى، وقربتنا إليه تقريبا.
وما أصفى تلك اللحظة وما أروعها وأزكاها إذ تلا علينا بعض العلماء الآيات الواردة في مولد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام وعبوديته واصطفائه من سورة آل عمران والمائدة ومريم وكأننا في عالم غير هذا العالم، بل وكأننا بين أيدي ربنا جل وعلا، ثم فسرها في أسلوب ساحر أخاذ باهر للعقول ومدهش للأفكار، وذكر سماحة المفتي بهذه المناسبة مناظرات له مع بعض علماء النصارى عن خرافة التثليث، فغلبه بقوة حجته ونصاعة بيانه، ودحض الباطل، ودمغ الأكذوبة، ودحر الأسطورة دحرا.
وشهدنا بعظمة القرآن الكريم وجلالته وإعجازه وبلاغه المبين، وقارنَّا بين تشريف الله بني آدم وتكريمه إياهم بخلقه إياهم واصطفائه لهم وبين المهانة التي طرحتها عليهم نظرية النشوء والارتقاء، واستدل سماحة المفتي ببراهين قاطعة على بطلان هذه الفكرة الملحدة، وبشهادات العلماء الغربيين أنفسهم على سقوطها وهرائها، وتطرق الحديث إلى اختيار الله نبيه صلى الله عليه وسلم وإعلاء شأنه ورفع مكانه، وأنشد سماحة المفتي قصائد في مديح النبي صلى الله عليه وسلم قرضها نصارى العرب، وهي في غاية الروعة والبيان.
وذكر الشيخ حسين خشن أن لبنان دولة صغيرة، ورغم ذلك فإن فيها أكثر من ثماني عشرة فرقة دينية معترف بها رسميا، وآخر من أضيف إلى القائمة الطائفة البهائية، وأكد أن الدروز فرقة باطنية لا صلة لها بالإسلام مع أنهم يدعون الإسلام، ولكن كتبهم الدينية تدل بصراحة أنهم يختلفون عن المسلمين في كل شيء، وأن العلويين والنصيريين من الباطنية، يتظاهرون بالإسلام حينا، ويمرقون منه حينا آخر، مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
وتحدث الشيخ حسين الخشن عن الربوبيين، وأهدى إلي كتابه عنهم (عالم دون أنبياء: دراسة نقدية في الفكر الربوبي)، والربوبيون يؤمنون بالله ربًّا، ويكفرون به إلها ومعبودا، ويرفضون فكرة النبوة وما يترتب عليها من فكر ديني ومنظومة تشريعية وتعاليم لإدارة الحياة وتنظيم شؤونها، قام المؤلف في كتابه هذا بمناقشة معنى الفكر الربوبي ومنشئه، وتأريخه ورموزه، وأهم الدوافع نحوه، والأسس التي يقوم عليها، ونقده وتفنيد أطروحاته في منهج علمي جاد، يقول في آخره في أسلوب الداعية: “أخي الربوبي! إن بيننا وبينك قاعدة مشتركة، وأرضًا صلبة، وهي قاعدة الإيمان بالله الواحد الأحد، وهذه الأرضية المشتركة تشكِّل منطلقًا للجلوس على مائدة واحدة، وتنسيق الخطى في مواجهة الإلحاد الذي يتنكر لفكرة الإله، إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن ندعوك أيضًا – بالجرأة عينها إلى إعادة النظر في رؤيتك حول النبوة، لأنها رؤية غير متماسكة، ولا تقدم صورة مقبولة ومرضية عن الإله الحكيم اللطيف والعليم الخبير، فضلاً عن أنها تحرمك الكثير من ألطاف هذا الإله وبركاته المعنوية وغيرها والتي بدت وتجلت من خلال الرسل والأنبياء”.
يوم الأربعاء:
حضرت المؤتمر في الساعة الثامنة صباحا، واستمعت إلى بعض المشاركين، ثم أخذني الأخ أزهر الندوي بعد الساعة العاشرة إلى مقر قناة الاستقامة باللغة الأردية، حيث أجرى مقابلة معي حول أهمية العلم في الإسلام، وتاريخ النساء العالمات، وانطباعاتي عن زيارتي لعمان.
وحضرت بعد العشاء اجتماعا لنخبة من أهل الخير والثقافة في مسجد عبد الله بن إباض، ألقيت فيه كلمة عن رؤيتنا في كلية كامبريدج الإسلامية، ثم حضرنا عشاء، وركزت في كلمتي على حاجتنا الملحة إلى استعراض منهاجنا التعليمي وتطويره تطويرا يساعد على تنشئة علماء أكفاء متعمقين في معرفة دينهم ومصادره وأصوله وفروعه وكلياته وجزئياته، وملمين بأوضاع عصرهم وبيئتهم، ومستعدين لمعالجة قضايا المسلمين وحل مشاكلهم، وهنا لقيت أخي الكريم توقير الندوي، وهو من تلامذتي، ومقيم في عمان منذ فترة.
يوم الخميس:
حضرت الساعة الثامنة الجلسة الأخيرة للمؤتمر، ثم اصطحبني الأخ أزهر الندوي إلى الأخ الدكتور كهلان الخروصي مساعد المفتي العام بسلطنة عمان في مكتبه في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وتحدثنا نحو نصف ساعة مستعيدين ذكرياتنا في أوكسفورد ومناقشين لبعض المسائل الفقهية الطارئة وضرورة الدعوة إلى توحيد صفوف المسلمين، وأهدى إلي ثلاثة من مؤلفاته:
الأول (غزوة بدر الكبرى: شاهد على التاريخ ومحطات للتأمل)، وأصل الكتاب ثلاث حلقات من البرنامج الإعلامي المشهور (سؤال أهل الذكر)، جاءت حلقتان بعنوان (غزوة بدر شاهد على التاريخ)، والثالثة بعنوان (غزوة بدر محطات للتأمل)، ولقد صدق المؤلف حفظه الله إذ قال: “إن غزوة بدر تحمل من الدلالات والدروس والمعاني ما يحتاج إلى تأمل ونظر، لأن دروس بدر لا تنقضي، وكيفما قلب المسلم صفحات هذه الغزوة، خاصة حينما تمر عليه ذكراها، فإنه سوف يجد في هذه الصفحات الكثير من الدروس ومن العبر والعظات”. (ص 66).
والثاني (قضايا فقهية معاصرة حول استخدام التقنيات الحديثة وشبكات التواصل)، يقول الأستاذ سيف بن سالم الهادي في مقدمته تعريفًا بالكتاب: “… ومن أجل هذا نجد أن التعاليم الإسلامية في القرآن والسنة تقدِّم خريطة كاملة للتعامل مع هذا الفطرة، وتقدِّم في الوقت نفسه حصانة فكرية ناضجة تقلل من وصول التأثيرات الثقافية والسياسية عليها، كما أنها تعطي فقهًا جيدًا للتعامل مع التقنيات من حيث الجواز والحرمة، ومن حيث المحافظة على حقوق الملكية الفكرية وعدم الاعتداء على ملكيات الآخرين، وأيضًا ما يتعلق بالحماية الأخلاقية، ومعالجة النزعة الفردية، والإفادة من النتاج المعرفي البشري الحديث دون المساس بالثوابت الإيمانية والأخلاقية”.
“وفي هذا الكتاب اهتمام خاص بالجهد الذي قدمه فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي، مساعد المفتي العام لسلطنة عمان من خلا برنامجنا (سؤال أهل الذكر) و(المحاضرات) و(الملتقيات) التي يشارك فيها الشيخ”. ص 14.
والثالث (المسلمون والغرب: إشكالية الفعل ورد الفعل)، وهو عرض علمي فكري لإساءة بعض الغربيين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقف المسلمين تجاهه، يقول في مقدمته: “ليس هناك عظيم في البشرية كرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو اختيار إلهي محض، زكَّاه ربه فأدَّبه وسوَّاه، حتى قال فيه شاعر الإسلام حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وأحسن منك لم تر قط عين
وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرءا من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء
ومنذ إشراقه صلى الله عليه وسلم على البشرية، ومؤمنها وكافرها يثني عليه طوعا، وتنعته بنعوت العظمة والجلال، حتى الذين سلكوا الطرائق القدد، لم يجدوا بدا من تسجيل لحظة احناء أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن في هذه الآونة الأخيرة قفز إلى الساحة الإعلامية والسياسية من تجرأ على خلاف ذلك، وانطلق يوجه النقد إلى المسلمين من خلال إساءته إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم من قبل صحيفة غربية، ليس لأنه وجد في حياته مجالا للنقد، حاشا وذلك محال، وإنما يريد أن يغيظ بذلك المسلمين”. ص 13-14.
وخرجت بعد الساعة الثانية عشرة إلى المطار في سيارة الأخ أزهر الندوي، فجزاه الله خيرا، وسلام مني على عمان وأهلها الطيبة أخلاقهم، والحميدة فعالهم، والزاكية قلوبهم، والسامية نفوسهم، المتواضعين لله، والمتحابين في سبيله، اللهم اجعلنا إخوانا على البر والتقوى متعاونين، وعن الإثم والعدوان معرضين متدابرين، آمين يا رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم إلى يوم الدين.