بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
ضريح المعمار سنان:
خرجنا في الصباح إلى السليمانية، ولما نزلنا بها مررنا بضريح المهندس المعماري الشهير سنان، وهو سنان الدين يوسف بن عبدالمنان (895/1489-996/1588) أكبر المعماريين في تاريخ الدولة العثمانية، وُلد في مدينة قيصري التركية بين أحضان عائلة أرمنية أرثوذكسية، وبعد بلوغ سن الرُشد أرسلته عائلته إلى إسطنبول، حيث ترعرع بين أحضان القصر وتلقى العلوم الدينية والدنيوية فيه وأصبح أحد أشهر المهندسين المعماريين والرساميين المبدعيين في القصر، انضم أولا إلى خدمات عسكرية، وعندما بلغ تسعا وأربعين سنة من عمره أمر السلطان سليمان القانوني بعد رؤية قدرته الإبداعية في العمارة بتنصيبه رئيسًا للمعماريين العثمانيين، وبعد حصول سنان على هذا المنصب تفرغ تمامًا لإنشاء المباني المعمارية المتنوعة من مساجد ومدارس وكليات تعليمية وقصور، وتميزت جميع مبانيه المعمارية بالجمال والدقة والإبداع والبراعة، وعمل لمدة 49 عامًا في مجال الإنشاء المعماري، ومن آثاره المعمارية: 55 كلية ومدرسة تعليمية أشهرها كلية زخرفية في حلب وكلية تشوبان مصطفى في غابزا وكلية حسكة في إسطنبول، و81 مسجدًا يأتي على رأسهم جامع السليمانية والشيخ زاده ومهرمه سلطان في إسطنبول والسليمية في إديرنة، و17أضرحة للسلاطين والأمراء مثل ضريح السلطان سليمان في بيازيد بإسطنبول، و3 مستشفيات ودور تأهيل يأتي على رأسها دار العجزة في إسطنبول، و5 طرق مائية جميعها موجود في إسطنبول، و8 جسور مثل جسر سيليفري وبيوك تشكماجا في إسطنبول، و36 قصرا مثل القصر العتيق والقصر الجديد في إسطنبول، و8 مخازن مثل مخزن القمح في حي كاغيت خانه في إسطنبول، و48 حماما مثل حمام السلطان سليمان وحمام السلطان “هُرّيم” في إسطنبول.
مطعم مجاني للفقراء:
ودخلنا المبنى الذي تم تشييده مطعما، يوزع فيه الطعام يوزع مجانا على الفقراء منذ عهد سليمان القانوني، ورأينا فيه شجرة قديمة جدا ترجع إلى القرن السادس عشر المسيحي، كما شاهدنا طاحونا من العهد نفسه، وثلاجة طبيعية قديمة، وقد أهدي المبنى أخيرا إلى جامعة ابن خلدون، وستستعمل كمكتبة وبعض الفصول الدراسية، ثم مررنا بالمكتبة السليمانية، ودخلنا المقبرة بجانب الجامع، وشاهدنا ضريح السلطان سليمان القانوني وبعض أهل بيته، وضريحا آخر بجنبه لزوجته خرم والتي اشتهرت اشتهارا كبيرا، وعلى اليسار من ضريح سليمان ضريح العالم المحدث الصوفي النقشبندي ضياء الدين الكمشخانوي، وبجانبه مقبرة فيها أضرحة كبار أهل طريقته وأتباعه.
ثم أطللنا على البحر من ناحية المسجد.
الشيخ محمد عوامة:
وصلينا الجمعة في جامع قريب من منزل فضيلة شيخنا الجليل الشيخ محمد عوامة حفظه الله تعالى وبارك في حياته، دخلنا المسجد الساعة الثانية عشرة والنصف، والإمام يقرأ آيات من كتاب الله تعالى، ثم ألقى كلمة طويلة باللغة التركية، وأذن بعد الساعة الواحدة بعشر دقائق، فصلينا أربع ركعات سنة، وصعد الإمام المنبر العالي جدا، وخطب باللغة التركية، وصلى بنا الجمعة.
وبعد الصلاة سلمنا على شيخنا الجليل ورحب بنا والسرور باد على وجوهه، ثم صرنا معه إلى مكتبته وتناولنا بها الشاي معه، واستمعنا إلى حديثه الذي كله فوائد علمية وتوجيهات رشيدة في سبيل العلم والبحث والتحقيق، والشيخ أسوتنا جميعا في المعرفة وسيرته الطيبة وأخلاقه النبيلة والشكر والصبر وسائر الخصال الحميدة.
وسألني عن شيوخنا في ندوة العلماء فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، وفضيلة الشيخ سعيد الرحمن الأعظمي، وفضيلة الشيخ محمد واضح رشيد الندوي حفظهم الله تعالى.
وحدثنا عن أخطاء المحققين الباعثة على العجب منها أن بعضهم حقق كتابا وفيه في ذكر نصاب زكوة الإبل “بنت لبون” فعلق عليه أنه لم يقف على ترجمتها.
وأهدى إلينا أخونا الشيخ الدكتور محيي الدين عوامة مؤلفات للوالد الكريم، منها طبعات جديدة لبعض الكتب، ومنها كتب صدرت له حديثا ولم تكن عندي، وهي: تحقيقه للمدخل إلى علم السنن للبيهقي، وحكم الحديث الضعيف بين النظرية والتطبيق والدعوى، والتحذير من التوارد على قول دون الرجوع إلى مصادره ويليه كلمة في التوقي من التحريف، ومن منهج الإمام مسلم في عرض الحديث المعلل في صحيحه ويليه حذف طرف من الحديث الواحد اختصارا له أو إعلالا، ومن مصطلح ابن خزيمة في إعلاله الحديث في صحيحه ويليه لمحات في بيان مذهب ابن حبان في معرفة الثقات، ودراسة حديثية فقهية لحديث ابن عباس في الجمع بين صلاتين من غير عذر ويليه هل في حديث “خلق الله التربة يوم السبت” إشكال؟ دراسة الأقوال فيه وتصحيحه سندا ومتنا ويليه وجهة نظر في فهم حديث عرض أبي سفيان الزواج بأم حبيبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وخطوات منهجية في إثبات عدالة الصحابة ويليه رواية الحديث الشريف بالمعنى بين الحكم النظري والواقع العملي، واللقاء بين الراويين قرينة على الاتصال أو شرط له ويليه الحديث المرسل وتحرير أشهر المذاهب فيه قبولا وردا.
الشيخ محيي الدين عوامة:
كما أهدى إلي أخونا العالم النبيه البحاثة المحقق الدكتور الشيخ محيي الدين عوامة كتابين له، أحدهما (تقسيم الأخبار ودلالتها عند السادة الحنفية)، يقول في مقدمته: هذا بحث لطيف الحجم، جديد المعنى، دقيق المادة، حول تقسيم الأخبار عند ساداتنا الحنفية، رحمهم الله تعالى، رأيت فيه الجدة عمن سبق، والتفرد بمن لحق، مع بحثي الحثيث، وتتبعي المستمر، وما ذاك إلا لمراجعة الأصول، ومطابقة النقول، وتتبع المصادر”.
والثاني (صفحات مضيئة من حياة سيدي الوالد العلامة محمد عوامة)، يقول في مقدمته: “فهذه لمحة من لمحات، وطاقة من طاقات، أو إن شئت فقل: طرفة من لمحة، ووردة من طاقة، في ترجمة علم من أعلام الأمة، ورائد من روادها، اجتزأت نفسي لاجتزائها، وأجبرت نفسي على اختيارها، وإلا فكيف يصب بحر في كاس، أو يذكر نفس وتهمل أنفاس، فأرجو ألا يكون اختزالي مضلا، ولا اختصاري مخلا”.
الرجوع إلى السليمانية:
ثم رجعنا إلى السليمانية ومشينا في طرقها، وهي واسعة نظيفة على العكس من المدن الإسلامية القديمة كدلهي وغيرها والتي شوارعها وأزقتها ضيقة وغير نظيفة، ومشينا إلى الجامع السليماني حيث استجازني بعض الإخوة، ثم ودعنا الأخوين الكريمين عبد اللطيف وبيت الله التركيين، وشكرنا لهما على عنايتهما بأمورهما وجزاهما الله تعالى خير الجزاء.
الشيخ يوسف قراجه الندوي:
وكان لنا شبه موعد لزيارة فضيلة الشيخ يوسف قراجه الندوي حفظه الله تعالى، ولكنا تأخرنا في وصولنا إلى السليمانية، ولم يسمح لنا الوقت بزيارته، فاتصلنا به، وتحدث معي باللغة الأردية الفصحى، فعجبت من إتقانه للغة مع أن كثيرا من المتخرجين من ندوة العلماء الهنود ضعفاء فيها، وذكر الشيخ أنه أصيب بمرض، شفاه الله منه وعافاه، وقد عاقه عن زيارة ندوة العلماء، واستبشر بوجودي وتأسف على عدم حصول المقابلة، فوعدته أني سوف آتي إسطنبول بعد أربعة شهور تقريبا وأقيم بها عشرة أيام أو أكثر، فسألني أن أنزل في بيته فإنه بيت واسع كبير، ولقد رأيتني أنست بالشيخ لصفاء قلبه وصدق محبته ومراعاته العهد القديم، وصلته بندوة العلماء قوية جدا، وهو من أقرب الناس إلى شيخنا الإمام أبي الحسن علي الندوي رحمه الله تعالى.
الشيخ حمدي رسلان:
وفاتنا أن نزور فضيلة الشيخ حمدي رسلان، وصلتي به قديمة، فقد لقيته أول مرة في بيت شيخنا أمين سراج حفظه الله تعالى قرب مسجد الفاتح، وقد زارني قبل أيام في لندن، وألقى كلمة أمام طلابي وأجازهم إجازة عامة، واتصل بي اليوم وأنا في طريقي إلى المطار، وتأسفنا على فوات اللقاء، وتواعدنا على أن نلتقي قريبا إن شاء الله تعالى.