رحلة تركيا (2) يوم الأربعاء10 ربيع الثاني 1440/19 ديسمبر 2018

Reading Time: 5 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلنا إلى قاعة المؤتمر قبل التاسعة، واستقبلنا على بابها الأخ الدكتور عبد اللطيف آيدن تركي الأصل والمولد والمنشأ، وبريطاني الإقامة، وهو من تلاميذي النجباء والمتأدبين الكرماء، وتعانقت مع الأستاذ رجب شأن ترك رئيس جامعة ابن خلدون، مجددين عهدا لنا سابقا، واستأنسنا بالأخوين عقيل وأنس ابني الدكتور مصطفى الأعظمي.

وشرَّفنا شيخنا العلامة محمد عوامة حفظه الله تعالى أزكى الحضور أخلاقا، وأنورهم وجها، وأسماهم شرفًا، وأعمقهم علما، وأعلاهم في الحديث كعبا، فسلمت عليه وقبلت يده، وسألته عن صحته وحاله، وأعرب وهو عاجب من شيبتي عن سروره البالغ بلقائي، وما لشيء بشاشة بعد شيء كلقاء شيخ حبيب وعالم ألمعي تشفيك رؤيته.

وبدأ الأخ أنس التركي من جامعة ابن خلدون إجراءات الحفل بشعر حسان بن ثابت رضي الله عنه:

وَأَحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني
وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ
خُلِقتَ مُبَرَّءً مِن كُلِّ عَيبٍ
كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ

وتلا علينا الأخ مصطفى ألتن آيات من أول آل عمران، وقام الدكتور بلال آيباقان بالتقديم، وهو أستاذ في جامعة ابن خلدون، وكانت لي معه مجالس في زيارتي السابقة، وتفضل الأستاذ رجب شأن ترك رئيس جامعة ابن خلدون بإلقاء كلمته الترحيبية، وهو من تلاميذ الدكتور مصطفى الأعظمي، رحب بالضيوف وأشاد بفضل الأعظمي.

ثم ألقى شيخنا محمد عوامة كلمة المؤتمر الافتتاحية قائلا: نحن في ذكرى الشيخ محمد مصطفى الأعظمي، وقام الأستاذ رجب بأداء واجبه نحو شيخه، وهو خلق إسلامي، خلق الوفاء، وذكر مثالين للوفاء من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وشكك الشيخ في نسبة البيتين السابقين إلى حسان بن ثابت مع أنهما موجودان في ديوانه، مستنكرا قوله “كأنك خلقت كما تشاء”، والرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الخلق خلقوا كما شاء الله وأراد. إذا أردنا أن نمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة وجيزة بالغة معجزة، فهي كلمة سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه إذ دعاه قائد الجيش الرومي أو الفارسي في غزوة من الغزوات، وسأله أن يصف محمدا، فقال: هو رسول الله، والرسول على قدر المرسل.
ثم قال الشيخ: يجب علينا إحياء الذكريات، وعظماء الإسلام لا تنتهي، وإننا مقصرون في حقهم، والشيخ مصطفى الأعظمي شخصية متميزة، من جانب الثقافة، فثقافته قديمية وحديثة، مشيخية وأكاديمية، درس في دار العلوم بديوبند والتي تسمى أزهر الهند، ثم يسر الله له الدراسة في جامع الأزهر يوم كان فيه البقية الباقية من العلماء، فأخذ عنهم، ثم دخل في الدراسة الأكاديمية ونال الدكتوراة، وجمع بين اللغات الأردية والعربية والإنكليزية، وزاده تميزا أنه بقي محافظا على الشخصية الإسلامية الأصيلة، واعتذر عن الأخطاء والأوهام المتواجدة في تحقيقات الأعظمي قائلا: وعذر الرجل أنه كان كثير الأسفار فكان يكل بعض أعماله لطلابه وأصحاب المطابع، فثمَّ ملاحظات عليه.

وقدموا إلى الشيخ هدية كتاب (تأويلات القرآن) للإمام أبي منصور الماتريدي، وسلمت على شيخنا مرة أخرى وانبسط لي، ثم لقيت الشيخ أبا الليث الخيرآبادي من ماليزيا، والأخ شكيب القاسمي من ديوبند، والأخ عبد الماجد الغوري، وغيرهم من الإخوة الأتراك وغيرهم.
وبعد الاستراحة حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف قدم الدكتور أنس الأعظمي كلمته “مع أبي سفرا وحضرا” مستعينا بالصور، والدكتور محمد أوز شنل كلمته حول موضوع “إسهامات علماء شبه القارة الهندية في علم الحديث: مصطفى الأعظمي أنموذجا”، باللغة التركية، وخلال كلمته أحسست أن الحضور غير مركزين، وعدم التركيز ظاهرة المؤتمرات والندوات العلمية، ولعل السبب أن المشاركين إنما ينوون الإسماع لا الاستماع، فظُّن ما شئت عن ملتقى المسمعين والمتكلمين، فكلما تكلم أحدهم أعرض غيره عن السماع واشتغل بشيء آخر.
وقدم الدكتور عقيل الأعظمي كلمته عن “جهود والدي الرائدة في مجال القرآن والحديث”، والأخ عبد الماجد الغوري مقاله عن “الشيخ محمد مصطفى الأعظمي أهم مزايا شخصيته ومؤلفاته وتصحيح بعض ما نسب إليه من الأوهام”.

وخلال فترة صلاة الظهر قابلت الأستاذ عمر فاروق، وهو من العلماء المحترمين، متميز بسعة النظر وحسن الخلق والتودد، وألقيت على دعوة من الدكتور أحمد صنوبر أستاذ الحديث النبوي الشريف وباحثه المحقق كلمة أمام عدد كبير من طلاب جامعة ابن خلدون رجالا ونساء مفتتحا بحديث المسلسل بالأولية ومجيزا لهم إجازة عامة، ثم موجها لهم التوجيه الصحيح كيف يدرسون الحديث النبوي الشريف، وشرحت لهم منهجي شرحا، وأحلتهم على مقالاتي: “كيف يدرس الحديث النبوي الشريف”، “تقاصر العلماء عن منهج المحدثين”، و”بين الفلسفة والحديث”، وغيرها من المقالات، ورددت على بعض أسئلتهم.

وبعد الظهر قدم الشيخ الدكتور عامر التميمي مقاله عن “جهود علماء الإسلام عن تدوين السنة النبوية الدكتور محمد مصطفى الأعظمي أنموذجا”، والدكتور فوزودشلي عن “فهم نظام الإسناد “منهج النقد” لمصطفى الأعظمي أنموذجا”، والدكتور سردار دميرل عن “تحرير وتحليل كتاب “دراسات في منهج الحديث” في إطار إسهاماته الحديثية”، والدكتور ماجد قره كوز أوغلو “بماذا تمتاز جهود مصطفى الأعظمي الحديثية”.
وبعد الاستراحة قدم الدكتور محمود مصري مقاله عن “الأستاذ محمد مصطفى الأعظمي محققا”، وأخونا الكريم الدكتور محيي الدين عوامة عن “الدكتور محمد مصطفى الأعظمي محققا: صحيح ابن خزيمة أنموذجًا”، وحسبه أنه في كل حال شبيه أبيه بحثا وتحقيقا وتدقيقا، وأخيرا الدكتور حمزة البكري عن “الدكتور محمد مصطفى الأعظمي محققا: دراسة نقدية في تحقيقه موطأ الإمام مالك”.
ومما سرني اليوم مكالمتي الهاتفية مع صديقي الوفي محمد وائل الحنبلي، وهو مقيم في عينتاب على حدود سوريا، وبينها وبين إسطنبول ساعتان بالطائرة، فلم نرتب مقابلة، ولعلنا نلتقي خلال زيارتي القادمة لتركيا في نهاية شهر مارس العام المقبل إن شاء الله تعالى.
وخرجنا حوالي الساعة الخامسة في سيارة الأستاذ أحمد صنوبر، في برد شديد وثلج وريح قارسة لزيارة أخينا الكريم الشيخ محمد مجير الخطيب، وهو مقيم في منطقة الفاتح، واستغرق الوصول إليها أكثر من ساعة، ولقينا بها الأخ البراء الحنبلي أخا الشيخ محمد وائل الحنبلي، وقد رأيته في دمشق وهو صغير، والآن قد كبر وصار ذا لحية وتزوج وصار ذا ولد، وهو عالم معني بالحديث والرواية، ولا يستنكر ذلك ممن كان وائل أخاه، وصادفت قلبي منجذبًا إليه أي انجذاب، كأن لباطنه صفاء ندر منه الزمان وأهله، ولم يكن لدينا وقت كاف للمحادثة، ولعلنا نلتقي قريبا إن شاء الله تعالى.

وأخونا محمد مجير الخطيب من علماء الحديث المعروفين، وتعرفت عليه في دمشق وصادقته، وكان إذ ذاك مشتغلا بكتابه (مدار الحديث)، وسررت جدا بلقائه اليوم بعد انقطاع طويل، وهو مشغول بالتدريس والتأليف، وتحدثنا عن وضع إخواننا السوريين وهجرتهم القسرية، ويا لقوم كرام، إن أصبحوا غرباء فالمجد بينهم غير غريب، والشرف لهم ملاصق غير مفارق.

وأهدى إلي كتاب (التصريح والإفصاح لبيان معاني الإيضاح لبعض مسائل التخريج والترجيح والعلل والإصطلاح) تأليف عبد القادر محمد أبو الفرج الخطيب الحسني، يقول في مقدمته: وقد أكرمني الله تعالى فنظمت في بعض مباحث أصول الحديث العالية منظومة سميتها: الإيضاح لبعض مسائل التخريج والترجيح والعلل والاصطلاح، وكان جل معانيها مستقى من رسالة أخي الشقيق الحبيب الدكتور الشيخ محمد مجير الخطيب الحسني حفظه الله ونفع به وجزاه عن العلم وأهله خير الجزاء: معرفة مدار الإسناد وبيان مكانته في علم علل الحديث الشريف، وهي رسالة مبتكرة في موضوعها، لم ينسج ناسج على منوالها، أماط فيها اللثام عن مباحث غابت عن مصادر هذا العلم المتداولة زمنا طويلا، واقتحم فيها لج المعضلات، وحل فيها كثيرا من المشكلات… وقد سئلت في نشرها وشرحها مرارا فكنت أؤجل ذلك لعلمي بقلة البضاعة، مع انشغال في الذهن، وبعد عن الوطن، وقلة في المصادر المتاحة، حتى أذن الله تعالى ويسر الأسباب فكتبت عليها هذا الشرح الوجيز”.