رحلة تركيا (1) يوم الثلاثاء9 ربيع الثاني 1440/18 ديسمبر 2018

Reading Time: 3 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحديث عن تركيا لذيذ شهي يكرر ويعاد، واشتياقي إليها طريف جديد لا تبليه الليالي والأيام، قد طال بي عهد وهز جوانحي شوق فجئت إليها من بلاد الغرب مسلِّما، أأرضًا بشر بها نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم! أ بقعةً قصدها الصحابة والتابعون! أمثوى محمد الفاتح متقلقل العزمات في طلب العلا والقيِّم على شعاف الأنفة والذرى! أمسكنَ سليمان وسليم وعبد الحميد رموز البطولة والشهامة! أمحلةَ الغزاة والفاتحين جامعي العزم والطموح ومستصغري الطوام والورطات! أمولدَ الأمجاد والمكارم! أتركيا العزيزة الأثيرة! اسلمي وتعلَّمي أن الجوى ما هجتِ، بقيتِ مسلَّمة للمسلمين، وعشتِ خليفةَ لله فيهم، صلوات الله عليكِ والتحيات الزاكيات كلما دمعت العيون بذكر الأحبة والخلان، وكلما استعبرت القلوب بما تخالجها من هموم وأحزان.

إن تركيا طليعة الطلائع الإسلامية، قاعدة الخلافة العثمانية، رافعة راية الشوكة والأبهة للمسلمين في العالم كله طيلة قرون، وارثة الذكريات والآثار العلمية والثقافية والحضارية عبر الأجيال والعصور، وحاملة منارة الدين الحنيف إلى أوربا المتمادية في ظلمة الليل البهيم الأليل، وناصرة المظلومين المضطهدين إذا وقعت حيرة وادلهمت النوائب والملمات، وأمينة تاريخ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم سارٍّ وتاريخٍ لها محزن، ناطقة بكل زاجرة موعظة، وحاثَّة على كل عبرة موقظة.

أخلصتْ في مواقفها الجريئة الحازمة، فلم تبال بالتاريخ أنصفها أو عدل، أو جار عن الحكم وضل، وبلسان الدهر كساها بقايا حمد، أو عضَّها بأنيابه عضا، وبالكون استثار رغبا أو رهبا، ماشية نحو غايتها على ثقة وعزم من حديد ونهج غير منبهم، ولأبنائها نفوس صادقة اشتراها ربها منها، نفوس أقوى من الصخور الصم، والجبال الشوامخ، نافية للغي بالرشاد وعامًّا نداها آفاق البلاد، وعاتية على صروف الدهر وأسباب المنايا، ومواجهة للدواهي وصنوف الرزايا، لم تطأطئ قط للطواغيت متذللة خاضعة، ولم تلق يد السّلم للجبابرة مستكينة خانعة، ما زاغت خطاها في خوف ولا أمن، وما طاشت أحلامها في عسر ولا يسر، كواكب نيرات للهدى، عناوين ساطعات لسنن المصطفى، جيوش قاهرة للأعداء، ثائرة عليها براكين، إن تركيا عزيزة إلى قلب كل مسلم، فما لي ملحًّا أن أتفرد بهواها وحدي، ووادَّة أن أحل عندها في الحب محلا أحلها الحب عندي، وما لي أحسدها أن تكون إلفا لسواي وأنسا لغيري.
وصلت الساعة الثامنة والنصف إلى إسطنبول لحضور مؤتمر تعقده جامعة ابن خلدون عن حياة شيخنا الدكتور مصطفى الأعظمي وأعماله في 19-20 ديسمبر، تصحبني بنتي سمية، وقد زرت هذه المدينة التي تتقاسمها أوربا وآسيا غير مرة للمشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية، وكانت آخر هذه الزيارة في شهر فبراير هذا العام لإلقاء محاضرات ودروس في جامعة ابن خلدون استجابة لدعوة رئيسها فضيلة الأستاذ رجب شان ترك، شاهدتُ جوامعها ومتاحفها ومدارسها ومراكزها العلمية والتعليمية، وتغديت وتعشيت في مطاعمها مستطيبا لمآكلها ومشاربها، ومتآنسا إلى محاسنها ومناقبها، وأقررت عيني بمصافاة أياصوفيا التي تستهوي قلوب المسلمين والنصارى يجتمعون فيها متهللة وجوههم مداراة وملاطفة، وموغرة صدورهم ترة وشحناء.

يؤم الناس تركيا لأغراض لهم وحاجات سياسية واقتصادية وسياحية، وما موافاتي إياها إلا لمزايا لهاعلمية وثقافية، غير جارٍ في مضمارهم ولا مزاحم لخيولهم، فالتاجر مجده في كيسه والعالم مجده في كراريسه، راغبا في مقابلة الشيوخ والعلماء والأصدقاء، ومجددا لذكرياتي مع آثارها الخالدات والضاربات في العتاقة والقِدم.

يا تركيا! جاءك زائرك المحب لك المتيَّم بك، مبلغًا إليك تحيات المسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها وسائر الآفاق، يغرِّد قلبي بحبك فيطربه، عظمتِ قدرا فازددتُ لك حبا، أرادوا قطعك عن ماضيك فأبيتِ، وإباؤك للضيم رفعك، فاعتز بك المسلمون في العالم كله واشتدوا بك اشتدادا، إن حريتك حرية كل مسلم، وإن سلامتك سلامة كل مؤمن، قد أشرق الحق في أحشائك فلا غي ولا ظلم، وصدق عزمك فلا وهن ولا سأم، يا تركيا! امضي مع الحق فالظلماء حالكة والأخطار محدقة، والأهواء حاكمة، امضي صابرة محتسبة، مدججة بسلاح الإيمان والعزم، فإليك ترنو النفوس، وبارق فجرك تنتظره العيون، يا تركيا! نهدي إليك ثناءا عطرا وتنويها بشأنك فائحا شذى وعبيرا، فأنت منبت المجد والشرف، وشعبك منبع النبل والكرم، والكرم مكرم بكل لسان وفي كل زمان ومكان، واللئيم ملوم مهما تظاهر بالجور والطغيان.