رحلة الحج (26) يوم الاثنين 16 من ذي الحجة سنة 1439هـ

Reading Time: 6 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

وعظي لأصحابي:

وعظت أصحابي اليوم بعد الظهر ناصحا إياهم، مفتتحا كلمتي بذكر نعمة الله علينا وفضله إذ وفقنا لحج بيته الحرام من غير حول منا ولا قوة، وما كتب لنا من أجر منذ أن خرجنا من بيوتنا إلى أن نرجع، ولو كنا نائمين ومستريحين، أو مستطيبين أكلا وشرابا، أو متقاذفين بيننا طرفا ونوادر، ما دمنا للخطايا والمعاصي غير راكبين، وللآثام والذنوب غير قارفين، ونتضاعف أجرا ومثوبة ونحن جادون في أعمال الطاعة والعبادة، مصلين لله تعالى، ومسبحين بحمده، وعلى ما يضاد أهواءنا صابرين.

ونبَّهتهم على أن يعملوا عقولهم وأفكارهم قبل أن ينطقوا بكلمة، أو يقدموا على فعل، أو يقصدوا قصدا، فالمنطلق من التعقل والتفكر هو الرشيد، والمتفلت منهما هو السفيه، لا يحصد إلا الندم، وأقبح به عقبى، ولم يؤت بنو آدم على كثرة ما أوتوا شيئا أشرف من العقل ولا أنبل منه ولا أغلى، فدرِّبوا أنفسكم على توظيفه مكرهيها على النظر والفكر، وأفضتُ في أن النجاح ليس بتحقيق الأماني والرغبات، وأن الخسران ليس بإخفاق الأماني والرغبات، يأتي أناسًا هواهم بلا سبب، ويحرم آخرون وقد جمعوا أسبابا، نجهل النفع فندفعه، ونرى الضر فنجتلبه، وطالما طاوعنا جهلنا وأحببنا التصابي فرمانا سهمه وأصاب، ما كل ما نرجوه أهلا للرجاء، وما كل ما نحذره موضعا للحذر، إن النجاح كل النجاح أن يعمل الإنسان الفكر ويسعى لما أراد، فإذا تحقق ذلك شكر، وإذا لم يتحقق صبر، وإن الفشل كل الفشل أن يحرم الإنسان الشكر والصبر، فلا يضاعف الأعمال شيء مثل الحمد لله والشكر له، يصلي الإنسان أويتصدق فيحمد ربه فتكتب له صلوات مع صلاته، وصدقات مع صدقته، وكذلك سائر أنواع البر والإحسان، وإن معية الله مع الصابرين، ومن كان الله معه كان منصورا غير مخذول، وأعلموا أن خير الأيام قليلة في الدنيا، وعند الله أيام غير فانية فجاهدوا لها محتسبين.

واستلفت أنظارهم إلى ما للنساء من حقوق وحرمات، مرشدا إياهم إلى الطريق الأقوم للحياة الزوجية والعائلية، وكاشفا الستار عن شرف النساء، وأن لهن قلوبا وعقولا، وأن لهن مشيئات وإرادات، فلا نسعينَّ استرقاقهن، أو سلبهن قواهن، أو إكراههن مستذلين لهن مستصغرين، وقد يسوؤنا بعض أمورهن ويسرنا أمور أخرى، فلنتغاض عما يسوؤنا، ولننظر إلى ما يسرنا، وإياكم أن تتعمدوا لهن بأذى بألسنتكم وأيديكم، واتقوا الله فيهن، ولا تظلموهن، وإياكم أن تهينوهن وتبغضوهن وقد كن إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم مكرمات محببات، فليِّنوا لهن جوانبكم، وألحقوا بهن خُلتكم، صافي الود لهن، ونابية عن أذاهن مضاربكم.

تفسير سورة الكوثر:

والحمد لله على أني ختمت اليوم تدريس سورة الكوثر، وملخص ما شرحته لهم اليوم:

تأويل قوله تعالى “إن شانئك هو الأبتر”: إن قريشًا افتخروا بشرف منبتهم وطيب مغرسهم عند البيت المبارك، وبأن فيهم خدمة البيت وعهد النحر من لدن إبراهيم عليه السلام أصل البركات، وزعموا أن محمدا هو المنقطع عنهم كالصنوبر المنقطع لا تطول مدة بقائه، وكانوا مطمئنين بهذا الظن الباطل معتمدين على قول رئيس اليهود حتى أزال الله عنهم الغطاء حين علموا أنهم هم المخذولون المقطوعون، وقد وقع ذلك الوعد حين نزلت سورة البراءة فقطع كل مشرك عن المسجد الحرام.

موقع نزول السورة ودلالتها على أنها بشارة بفتح مكة: لم يتبين للنبي صلى الله عليه وسلم هل يكون حاله كحال عيسى عليه السلام توفاه الله قبل النصر، أو كحال نوح عليه السلام أراه الله النصر العظيم، أو كحال إبراهيم وموسى عليهما السلام أراهما الله طرفا من الفتح والبركة ووعد إتمامها عند ظهور البعثة الأخيرة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في ظمأ الرجاء حتى إذا نزلت هذه السورة فلق لهم الصبح وجاءتهم تباشير الفتح، فلا نفهم من هذه السورة إلا أنها نزلت قبيل فتح مكة أو عند فتحها الأول ظاي صلح الحديبية.

النظر في السورة من حيث مجموعها: إن السورة بشارة بفتح مكة، وإنذار لأعداء النبي صلى الله عليه وسلم بكونهم مقطوعين عن وراثة إبراهيم عليه السلام، فأول السورة وآخرها جاءتا على أسلوب المقابلة، ووسطها كالبرزخ بينهما ناظرة إليهما، أي من قام بالتوحيد وصلى ونحر أعطي الكوثر، ومن خالف ذلك بتر عنه.

لامية ابن الوردي:

وختمت اليوم شرح لامية ابن الوردي أيضًا، ومما شرحته لهم اليوم:

قِيمـةُ الإِنْسـانِ مَـا يُحسنُهُا
كثَّـرَ الإنِسـانُ منـهُ أمْ أقَـلْ
أُكْتمِ الأَمـرينِ فقـراً وغَنِـى
وَاكسَب الفَلْسَ وَحَاسِب منْ مطَـلْ
وَادَّرع جِـدا ً وكَـداً واجتنبْ
صُحبـةَ الحْمقـى وَأَرْبـابُ الخَلَـلْ
بَـينَ تَبـذيـرٍ وبُخـلٍ رُتبةٌ
وَكِـلاَ هَـذيـنِ إنْ زادَ قَتَـلْ
لاَ تخُضْ فـي حَقِ سَاداتٍ مَضَوا
إِنهـم لَيسـوا بـأهْـلِ للـزَّلَلْ
وَتَغَاضَـى عَـنْ أُمـورٍ إِنهُ
لم يفُـزْ بـِالحْمـدِ إِلاَ مَـنْ غَفَـلْ
لَيسَ يخَلُـو المْـرءُ مِنْ ضدٍّ وَلَو
حَـاوْلَ العُـزلـةَ فـي رَأسِ الجبَـلْ
مِـلْ عَنْ النَمَّامِ وازجُـرْهُ فَمَا
بلَّـغَ المْكـروهَ إلا مَـنْ نَقَـلْ
دارِ جارَ السَّـوءِ بِالصَّبرِ وإنْ
لمْ تجـدْ صَـبراً فَمـا أحَلـى النُّقَـلْ
جَانِبِ السُّلطانَ واحذرْ بَطشَهُ
لاَ تُعـانِـدْ مَـنْ إِذْا قـالَ فَعَـلْ
لاَ تَلِ الأحَكامَ إِنْ هُمْ سَأَلْـوا
رَغبـةً فيـكَ وَخَالفْ مَـنْ عَـذَلْ
إنَّ نِصـفَ النَّاسِ أَعَـداءٌ لمنْ
وُلـيَ الأَحكَـامَ هَـذْا إِنْ عَـدَلْ
فَهُـوُ كَالمحَبُوسِ عـَنْ لـذَّاتهِ
وَكِـلاَ كفّيـهِ فـي الحْشـرِ تُغَـلْ
إِنَّ لِلنقـصِ والاسَتْثِقال ِ فـي
لَفظَـةِ الْقَاضِـي لَـوَعظاً أَوْ مَثَـلْ
لاَ تُـوازى لَـذةُ الحُكـمِ بمِا
ذَاقَهُ الشَّخـصُ إِذْا الشَّخـصُ انعـزْلْ
فَالْـوِلاَيَاتُ وَإِنْ طَابتْ لمـنْ
ذاقَهـا فَالسُّـمُّ فـي ذَاكَ العَسَـلْ
نَصَبُ المنصِبِ أَوْهى جَلَـدي
وَعَنـائـي مَـنْ مُـداراةِ السَّفَـلْ
قَصِّـرِ الآمالَ فـي الدُّنيا تفُزْ
فَـدْليـلُ الْعَقـلِ تقصـيرُ الأَمْـلْ
إِنْ منْ يطلِبهُ المْـوتُ عَلـى
غِـرَّةٍ مِنـهُ جَـديـرٌ بِـالـوَجَـلْ
غِبْ وزُرْ غِبَّا َ تـزِد ْ حُبَّاً فَمنْ
أكثـرَ التَّـردَادَ أَقصـاهُ المَلَـلْ
لاَ يَضُرُّ الْفَضـلَ إِقـلالٌ كَما
لاَ يَضـرُّ الشَّمـسَ إطْبـاقُ الطَّفَـلْ
خُذْ بِنصْلِ السَّيفِ واتركْ غِمدهُ
واعتـبرْ فَضـلَ الفـتى دونَ الحُلُـلْ
حُبُّكَ الأوْطانَ عَجـزٌ ظَاهِـرٌ
فَاغْتـربْ تلـقَ عَـنْ أَهْـلٍ بَـدَلْ
فَبمُكـثِ المَاءِ يَبقـى آسِنـاً
وَسُـرى البـدرِ بهِ الْبـدرُ اكتمـلْ
أيُّهْا الْعَائِـبُ قُـولـي عبثـاً
إِن طيـبَ الْـوردِ مُـؤذٍ لِلجُعـلْ
عَدِّ عَن أسهُمِ قَـولي وَاستتـِرْ
لاَ يُصيبنَّـكَ سَهـمٌ مِـن ثُعَـلْ
لاَ يَغـرَّنَّكَ لَيْـنٌ مِـنْ فـتىً
إنَّ لِلحيَّـاتِ لينـاً يُـعتـزلْ
أَنـا مِثـلُ المْاءِ سَهَـلٌ سَائـغٌ
وَمـتى سُخِّـنَ آذى وقَتَــلْ
أَنا كَالخيَـزور صَعبٌ كسْـرهُ
وَهُـوْ لَـدْنٌ كَيفَ ما شِئتَ انفتَـلْ
غَيرَ أنـيّ َ فـي زَمانٍ مَـنْ يكنْ
فيهُ ذَا مَـالٍ هُـوْ المـولَى الأَجـلْ
وَاجبٌ عِنـد الْورى إكـرامُـهُ
وَقليـلُ المـالِ فيهـم ْ يُستقـلْ
كُلُّ أهـلِ العصـرِ غمـرٌ وَأَنَا
مِنهُـمُ فَـاتـرُّكِ تَفَاصِيـلَ الجُمَـلْ
وَصـلاةُ اللهِ ربـي كُلَّمـا
طَلَـعَ الشَّمـسُ نهَـاراً وَأَفْـلْ
لِلذِّي حَازَ العُلى مِـنْ هَـاشِمٍ
أحمَـدَ المُختـارِ مَـنْ سَـادَ الأَوَلْ

طواف الوداع:

خرجنا في الساعة السادسة مساء لطواف الوداع، والمسجد الحرام وما حوله مكتظ بحاجّيه وزائريه اكتظاظه يوم الجمعة السابق، فلم نتمكن إلا أن ننفذ إلى الدور الأول، وبدأنا الطواف قبل الأذان، ولم نتم الشوط الأول إذ أقيمت الصلاة، وأكملنا مسيرنا بعد الصلاة، وخطر ببالي وأنا أطوف: هل لهذا البيت أن يودع؟ فقلت: إن الوداع وداعان: وداع هو الانقطاع، ووداع هو العهد بالوصال والعزم على العودة، فدعوت الله تعالى أن يقبل هذا الطواف وينعم علينا بالتردد إلى بيته والاختلاف إليه مباركا لنا في حياتنا وحسناتنا، ونظرت في رحمة الله بنا إذ رأى ضعفنا عن أن نبلغ ما بلغه إبراهيم عليه السلام في قوة الإيمان والحنيفية والإسلام، فأمرنا باتباعه، فإذا اتبعناه وأحببناه كنا من أهله وحشرنا معه، وما أيسره من نهج للإبراهيمية وما أرفقه من سير على درب الخلة والحنيفية السمحة، اللهم اجعلنا حنفاء لك مسلمين.

وصليت ركعتي الطواف ودعوت ربي بدعوات وقلبي معلق بهذا البيت غير متقضية لباناتي منه، وغوالب حبه ما تُغلب، ودواعي شوقه لاتخِفُّ، وودَّعته مخلِّفا شِقَّ نفسي ورائي، ومعطيا إياه مكنون التصافي.

التسوق:

وبعد العشاء خرجنا إلى محلات برج الساعة وتعشينا في بعض مطاعمه، واشترينا هدايا للأهل والأولاد والأصدقاء، ثم رجعنا إلى مقامنا بعد الساعة العاشرة.