بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
ربي! لا ألوم غيري لما أكابد من ضنك العيش وتعب، وما أعاركه من كدح في الحياة ونصب، ولا أحمِّل الشرق أو الغرب مسؤوليتي مشنعا إياه تشنيعا، ولا أقع في الكفار والمشركين والمنافقين معنفا إياهم تعنيفا، ولا أعتب على زمان ولا مكان، فما لي عليهما من معتب، ومن عتب عليهما فقل ما يرضى، وقل ما يصفو له المحيا.
ربي! لا أشكو إليك إلا نفسي متوجِّعا ومتظلِّما، وسَّعتَ عليها المواهب والنوائل، فكفرتْ بأنعمك الجلية الصافية، وأنكرتْ أياديك البيضاء المتوالية، وأوفيتَ لها آلاءك برا وبحرا وأرضا وسماء فتغاضتْ عنها في طيش وجهالة، وبسطتَ لها آياتك ظاهرة وباطنة متضافرة ومتكاثرة فتعامتْ عنها في خرق وبلاهة، وهل يعذر أحد في التغابي عن الصدق المستنير الذي لا خفاء به ولا اندلاس، وغمط الحق الأبلج الذي لا غموض فيه ولا التباس.
جعلتَ لها عينين لتبصر بهما طريقك وتهتدي إلى معرفتك، فطمستْهما وتسكعتْ في الظلمات مغرمة بهن غراما، وأنعمتَ عليها أذنين لتسمع بهما صوت الداعي إليك، فلم تطرب إلا للباطل ولم تنشط إلا للملاهي، وأكرمتَها باللسان لتنطق بالعدل والإنصاف، فلم تُصافِ إلا الجور والعسف، وحبوتَها جبهة لتسجد بها خاشعة لك، فتسامتْ بها واستكبرتْ، ونحلتَها أنفا لتمرغه في التراب ذلا لك، فشمخت به متعالية، فيا له من هوان وعار، ويا له من خساسة وشنار.
خلقتَ لها ما في الأرض جميعا مسخرا لها، مذاقا لفمها، وغذاء لمعدتها، ورزقا لعقلها وقلبها، فاتخذتْه مرعى لشهواتها، ومأكلا لها ومشربا، مستمتعة بها استمتاعا، وهجرتْ العقل والقلب سالبة إياهما حظهما مما يغذيهما ويقويهما، وعدتَّها رزقها فلم تثق بوعدك، ولم تقنع بما آتيتَها، ولم ترض بما قدَّرتَ لها، واطمأنتْ إلى رزق موكول لها بالمخلوقين، رجتِ الناس ناظرة إليهم وطامعة فيهم، ويئستْ من الواحد الصمد وهو أعلى منة وأبسط يدا، ومنحه ونفحاته لا تتقلص ولا تنفد، فرضتَ لها رزقها فبجمعه تعنى، وفي طلب الدنيا الكدود تسعى.
هديتَها النجدين، وأبنتَ لها عن صراط الرشد والهدى وطريق الغي والضلال مميطا اللثام عن أدلتهما وعواقبهما، وخيّرتَها أي السبيلين شاءت، فصغتْ إلى مذاهب الملعونين المغضوب عليهم والضالين الغاوين، مغتبطة بالعناد والفساد، وأنزلتَ لها كتابك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فتكاسلتْ عن تفقهه وتدبره، وهويتْ التوصل إلى معاني كتب قليلة الجدوى عادمة المنفعة، ولو أنها أمسكتْ بعروتك الوثقى لزادها الإمساك بها اعتدالا ورفقا، وأرسلتَ إليها حبيبك خاتم النبيين أسوة ومثالا، فتولتْ عنه إلى أعدائك، مضيعة للمواعظ ومنخدعة بالآمال، وأمرتَها فظنتْ أمرك تكليفا ومشقة، ونهيتَها عن أشياء رحمة بها فإذا هي بالشيء الممنَّع مولعة، أشكو إليك شقوتها وعدم تقواها، وتثاقلها عن الوفاء بعهودك وطغواها.
عاينتْ الموت يقطع كل عقد وثيق، ومن يمت يعدم النصيحة والإشفاق، وأن الموت غاية من مضى وموعد من بقي، فما اعتبرتْ بالموت ولا استعدَّتْ له استعدادا، وشهدتْ المصائب تنزل فما تيقظتْ بها ولا انتبهتْ انتباها، فما أغفلها عن بلائها وعنائها! وما أجهلها بمحنتها ومقاساتها، حسبتْ غيرك أخلاء وألافا، والأخلاء يتحابون ويتعادون، والألاف يجتمعون ويتفرقون، واستمتعتْ بشهوات الدنيا، وما الدنيا بدار فكاهة ولا دار لذات لمن صح عقله، فكل فكاهاتها مملولة، وكل لذاتها الطريفة سريعة البلى، ولا شيء فيها إلا له آفة، ولا شيء إلا له منتهى، وما زالت الدنيا منغصة لم يخل صاحبها من البلوى، أيقنتْ مغبات الهوى، فما تركتْ ما تهوى لما تخشى.
وأنت يا رحمن فتغفر لها خطاياها والزلات، وتغشاها بعفو منك ورحمات، ولا تجزيها بما هي أهله، فأنت الكريم، ولا يأتي من الكريم إلا الكرم، أما آن لنفسي الجموح أن يثنيها لجام، وأن يملك هواي الصعبة الأبية زمام.
اللهم هذه نفسي أشكوها إليك، تعبت من رعونتها، وهي عنها لا ترعوي، وقد صبغتْ ذوائبها الخطوب، تمادى منها غي ولجَّ بها ضلال، وقد تردي اللجاجة والتمادي، فأعِنني عليها وردَّها إلى مراشدها، واجعلها تعتصم بحبلك المتين، واكفِني اعتداءها علي وإسرافها في الأمور، وخذ بيدي إلى سبيلك، واهدني سواء صراط، وأحيني مسلما وتوفني مؤمنا وألحقني بالصالحين.