رؤية الهلال

Reading Time: 4 minutes

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: قد اختلف العلماء في رؤية الهلال اختلافا شديدا مفرقين بين المسلمين في تقرير بداية شهر رمضان، ويوم عيد الفطر، ويوم عرفة والحج، وباعثين بينهم تشتتا وانشقاقا، فنرى الناس في بلد بعينه بل وفي مسجد بعينه يصوم بعضهم ويفطر آخرون، ويحتفل خلق بالعيد، وإخوانهم غير محتفلين، وقد جعل الله العيد يوم ائتلاف وتقارب، وجعلناه يوم اعتزال وتنافر بين العائلات والأسر والأقارب والأصدقاء، ومما يعيبنا نحن المسلمين أن المدارس تمنح إجازة العيد لمجموعة من الطلاب والطالبات يوما، وتعطيها لأخرى يوما تاليا، فيشمت بنا غير المسلمين تشميتا.

قلت: ومرد ذلك كله إلى خوض المفتين فيما ليس من شأنهم وإقحام أنفسهم في ورطات لا يحسنون فيها دخولا ولا منها خروجا، كان الواجب أن يعلِّموا الناس شؤون دينهم واصليهم بربهم، ومطهِّريهم من الذنوب والآثام، ومزكيهم من الشرك والبدع والحسد والبغض، ويتركوا الأمور الدنيوية لغيرهم يحلُّوها وفق مقاييسهم ومعاييرهم متبعي لغاتهم وأعرافهم ومعملي عقولهم وأفكارهم.

قالوا: وكيف جعلت تقرير بداية الشهور أمرا دنيويا وقد باشره النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به أصحابه وسائر أمته رضي الله عنهم أجمعين؟

قلت: هو كذلك من ناحيتين،

قالوا: ما هما؟

قلت:

الأولى: إن توحيد الرؤية أمر تنظيمي، لا ديني، وقد اختلف الناس في رؤية الهلال قديما، ولكنهم كانوا أذكى منا عقولا وأصفى قلوبا، أدركوا أنه يتعلق بالرؤية أمر اجتماعي من الصيام والعيد فعولوا على رأي من بين الآراء المختلفة مجمعين عليه، وهكذا الأمم والشعوب كلها تختلف، ثم تبحث عن طريقة للاتفاق في الأمور الاجتماعية، ولكن أصحاب الآراء المختلفة في الرؤية في زماننا أخفقوا في أن يجتمعوا على رأي، ولوكانت وحدة المسلمين مقصدا من مقاصدهم لوجدواإلى ذلك سبيلا إما بالإجماع، أو بأغلبية الأصوات، أو بالاقتراع.

الثانية: إن رؤية الهلال أمر لغوي، لا ديني، والكلمات اللغوية تحمل على معنى من المعاني الثلاثة: معنى في القاموس، أو معنى في العرف، أو معنى في الاصطلاح، ومن الأخير المصطلحات الشرعية، فالحج في كتاب الله وسنة نبيه يحمل على معنى شرعي، والخمار يترجم إلى معنى عرفي، والغسل، والمسح، والوجه واليد يراد بكل واحد منها في آية الوضوء معناه في القاموس.

قلت: الفقه أن نبحث عن فرضية الغسل والمسح، ولكن معنى الغسل والمسح لا علاقة له بالفقه، وإنما معناه ما عهده الناس في لغتهم التي نزل بها كتاب الله تعالى.

كذلك رؤية الهلال أمر لغوي يتبع أعراف الناس، كان الناس في القديم يعتمدون على رؤية البصر، فكانوا يتحرون الرؤية ليلة الثلاثين، فإن شهدوا الهلال حكموا ببداية الشهر الجديد، وإن لم يشهدوا أو غم عليهم أتموا الثلاثين، وكانوا يعلمون أن الشهر إما تسعة وعشرون يوما أو ثلاثون يوما.

واليوم قد تطور العلم تطورا كبيرا، وأمكن العلماء الإخبار بميلاد الهلال الجديد أو ما يسمى بالاقتران بكل دقة.

وأما مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم للرؤية وأمره أصحابه بها فلأن أمرا دينيا يتوقف عليها، ولا سبيل إليها إلا إذا باشروا هم أنفسهم، وأما في زماننا فالأمر معلوم بالحساب الفلكي، ولا يتوقف على رؤيتنا.

قالوا: ولكن جاء في الحديث: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فعلق بالرؤية، والعلم بالاقتران ليس برؤية،

قلت: فإن غم عليكم وأتممتم الثلاثين، فهل تحكمون بالشهر بناء على الرؤية؟

قالوا: لا، ولا حاجة إلى الرؤية، فإنه من المستحيل أن يكون الشهر أكثر من ثلاثين يوما.

قلت: فإذا حصل لكم العلم تركتم الرؤية، فكذلك ما نحن فيه، فإن معرفة العلماء بميلاد القمر أمر يقيني كإيقانكم بالهلال ليلة الحادي والثلاثين.

قالوا: وهل تغيرت الأعراف في غير هذا الأمر منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتبع الفقهاء فيه عرفا جديدا،

قلت: تغيرت الموازين المكاييل والمقاييس والمقادير، فلا يوزن بالأرطال، ولا يكال بالصاع والمد، ولا يقاس بالذراع، ولا يقدر بالفراسخ والأقدام، وقد يبتني على تلك الموازين والمكاييل أكبر الحرام، وهو الربا، ومع ذلك فلم نلتزم موازين عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا مكاييله، بل قد انعكس الأمر وأصبح المكيل موزونا والموزون مكيلا، فكان البر والشعير والتمر وما إلى ذلك مكيلا، وصار موزونا، وكان الزيت موزونا وصار مكيلا في كثير من البلدان.

قالوا: مثالك يتصل بمعاملات الناس، ائتنا بمثال من العبادات،

قلت: ما أفضل العبادات؟

قالوا: الصلاة.

قلت: بنيت مواقيتها على طلوع الشمس وزوالها وغروبها، وكل ذلك يتعلق بالرؤية، ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بتأخير المغرب في أيام الغيم مخافة أن لا تكون الشمس قد غربت، عن عبد العزيز بن رفيع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجلوا صلاه النهار في يوم الغيم وأخروا المغرب، وعن بريدة الأسلمي قال: كنا معه في غزاة، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بكروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من فاتته صلاه العصر حبط عمله، وروي مثل ذلك عن الصحابة والتابعين.

قلت: ويتبع المسلمون منذ مدة من الزمان العلم في ذلك، لا الرؤية، في العالم كله، والعلم دقيق مضبوط، ومن ثم لا يستحبون تعجيل الظهر أو تأخير المغرب في أيام الغيم، لأنهم لا يعتمدون على الرؤية، بل يعتمدون على العلم.

قالوا: فماذا تأمرنا؟

قلت: لا تضيعوا قدراتكم في هذه الخلافات العقيمة التي لا تقربكم إلى ربكم، ووسدوا الأمور لأهليها، واعتمدوا على مقادير علماء الفلك الدقيقة في تقرير بداية الشهور.

قالوا: هل يضرك إن حصل الاتفاق على رؤية البصر؟

قلت: لا يضرني، ولكن لن يتحقق ذلك أبدا، وكونوا عبادا لله متواضعين، ولا تستكبروا في أرض الله، وإنه لمن الاستكبار أن تغمطوا حق علماء الفلك، وتدَّعوا علما ليس لكم، فتسببوا في افتراق المسلمين وانشقاقهم.