بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
دخلتُ مع أصدقاءٍ لي عربٍ مسجدًا في أوكسفورد لأداء صلاة الجمعة في أول وقتها، فإذا بالإمام على العادة المتَّبَعة في بلاد العجم يَعِظ الناس بلغته، فسألوني هل نصلي السنة أم نجلس مُتَنَصِّتين للخطيب مصغين إليه؟ قلت: بل صلُّوا قبل أن تَستووا جالسين، فإن صلاة الجمعة عندنا تسودها فوضى واضطراب، لا نظام فيها ولا التِئام، يَلُج بعض الناس مُلْحِفين أن خطبة الجمعة لا تصح إلا باللغة العربية، ولا يُحْسِنها الإمام وجُمهور المقتدين، فَيَسْبِقونها بكلمات بالأردية والبنغالية والإنكليزية، مُحْتوين بها الوقتَ كله، مُعَطِّلي الناسِ عن صلاة السنة والتطوع، وقراءة القرآن والذكر، فإذا أذَّن المؤذن الأذان الثاني قام الإمام وقرأ من مجموعة خطب ركيكة اللفظ ساقطة المعنى، صُنِعت في الهند قبل قرن من الزمان أو أكثر مُرصَّعَة مُسَجَّعة، يتغنى بها لاحنًا غير متَّبع نحوًا ولا إعرابًا
فارْتاعوا لهذا المَلْمح الوجيع وهذا الاستخفاف بحق شعيرة من شعائر الدين، وما لبثنا أن أذن المؤذن وقام الإمام وقرأ الخطبتين، وختم الثانية بالدعاء للسلطان بن السلطان والخاقان بن الخاقان خلَّد الله ملكه وسلطانه، فلما قضيت الصلاة سألوني من هذا السلطان الذي دعا له الإمام؟ قلت: هو الخليفة عبد الحميد الثاني سلطان آل عثمان رحمه الله تعالى، قالوا: ما حَبَس عنهم وفاتَه؟ وأفْظِعْ بتناقضكم وأهْلِع به، أنتم في أوكسفورد مدينة العلم والثقافة مُوضِعين في جهالة عمياء، متنائين عن سنة أولي العلم الزهراء؟
فلما قصصتُ على أصحابي القصص قالوا: ما المَهرب من هذا الهرج والمرج؟ يتكلم المسلمون في باكستان والهند وماليزيا وإندونسيا وتركيا وبلدان إفريقيا وأوربا وأمريكا وغيرها بغير لغة الضاد، فهل تُباح لهم الخطبة للجمعة والعيدين بلغاتهم التي يتواصلون بها؟ قلت: وهل يتخاطب الناس في العالم كله ويتحادثون إلا باللغة التي بها يتواصلون وبها يتفاهمون؟ أو ليس يُتوخى من الخطبة إلاَّ بَلاغ وإعلام، ولا بلاغَ ولا إعلامَ بين المرسل والمرسل إليهم إذا فرَّق بينهم حاجز الطبيعة واللسان
قالوا: ألم ينزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، أو لم يرسل سيدنا وحبيبنا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم في بني عدنان وذرية يعرب بن قحطان؟ قلت: بلى، وما أنا أقل حرصًا منكم على أن يُتقنه المسلمون إتقانا، ولكن ما داموا غير متقنيه ولا محسنيه كيف يوعظون بما لا يَعُون ولا يستخلصون؟ قالوا: أو ليست الخطبة قائمةً مقام ركعتين فتجب بالعربية كما تجب القراءة في الصلاة بالعربية؟ قلت: تَبايَن أمرهما وتخالف شأنهما، تُشترط الطهارة للصلاة وهيئات خاصة والتيميم شطر القبلة، ولا يُشترطن للخطبة، وإذا فات المصلي الخطبة لم يؤمر بقضائها. قالوا: الخطبة ذكر، فلا يجب فهم معناها. قلت: الخطبة ذكر، فيجب فهم معناها، وكيف يقع التذكير بحديث لايُفهم، أو كلام يُهَمْهَم، ومن ثمة كان بعض فقهاء الحنفية يجيزون لمن بعد عن الإمام ولم يسمع كلامه أن يشتغل بما هو أنفع له، قال الكاساني: عن نصير بن يحيى أنه أجاز له القراءة سرا، وكان الحكم بن زهير من أصحابنا ينظر في كتب الفقه. قال الكاساني: ووجهه أن الاستماع والإنصات إنما وجب عن القرب ليشتركوا في ثمرات الخطبة بالتأمل والتفكر فيها، وهذا لا يتحقق من البعيد عن الإمام، فليحرز لنفسه ثواب قراءة القرآن، ودراسة كتب العلم، ولأن الإنصات لم يكن مقصودا، بل ليتوصل به إلى الاستماع، فإذا سقط عنه فرض الاستماع سقط عنه الإنصات أيضً
قالوا: فما هي السنة في الخطبة؟ قلت: من سنة النبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يفصل بينهما بالجلوس، يُبَلِّغ في ثناياهما رسالة إلى الناس ونُذرًا، وكان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيشٍ، يقول: صبحكم ومساكم، وينبغي للإمام أن لا يزيد على خطبتين يجعل مقدماتهما بالعربية من الحمد لله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآي من القرآن الكريم، ويعظ المسلمين بلغتهم وعظًا بليغًا غير مفرط فيه ولا مطنِب إطنابا، ويختم الخطبة الثانية بدعوة للمؤمنين والمؤمنات.