توفيق، لا تلفيق

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: يسوؤنا أن تترك مذهب أبي حنيفة في أشياء إلى آراء مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهذا تلفيق،

قلت: إذا خلطنا بين ماء البئر وغيره من المياه الطاهرة، ألا يبقى على أصل الطهارة؟ كذلك مذاهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة الهدى، فإذا انتقلتُ من رأي إلى آخر في أمر من الأمور لدليل أوثق أو لمُرجِّح أوفق، فما الذي يسوؤكم في ذلك، ثم إن هذا توفيق وليس بتلفيق، لأن التلفيق يكون بين الحق والباطل، وهذا جمع بين حق وحق،

قالوا: سَمِّه ما شئتَ، ولا مشاحَّة في الاصطلاحات، وقد عرفتَ ما نريد، وهو عيب لك ولأمثالك.

قلت: أي عيب في ذلك؟ وقد فعله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون وأتباعهم،

قالوا: دعنا من الصحابة والتابعين وأتباعهم.

قلت: أليسوا خير القرون؟

قالوا: بلى، ولكن دعنا منهم، وائتنا، إن أردت أن تحتج علينا، بأقوال سادتنا الحنفية.

قلت: أليس أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر سادة الحنفية؟

قالوا: بلى، بل هم أفضلهم مكانا، وأمثلهم طريقة، بل هم قواعد مذهبنا وأركانه، فائتنا بما صح من أقوالهم،

قلت: قد ترك أبو حنيفة أقوال أصحابه الكوفيين في غير مسألة، كان ابن مسعود يرى أنه إذا حضر الصلاة رجلان سوى الإمام جعل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وكان عمر بن الخطاب يجعلهما خلفه، فترك أبو حنيفة رأي ابن مسعود إلى رأي عمر بن الخطاب، وذهب إبراهيم النخعي في الرجل يقص من أظفاره أو يأخذ من شعره بعد ما توضأ إلى أن يُمر عليه الماء، وذهب الحسن البصري وغيره إلى أن صلاته تصح بدون أن يصيب من الماء، فترك أبو حنيفة قول إبراهيم إلى قول الحسن والجماعة.

وذهب أبو حنيفة إلى جواز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض، وترك أبو يوسف قوله إلى قول غيره فلم يجز التيمم إلا بالتراب/ وبالتراب والرمل، وترك محمد قول أبي حنيفة في نجاسة بول ما يؤكل لحمه إلى مذهب أهل الحجاز والبصرة، فقال بطهارته، وذهب أبو حنيفة في صلاة المريض إن عجز عن الإيماء فلا شيء عليه، وترك زفر قوله إلى قول غيره وقال: يومئ بالحاجبين، فإن عجز فبالعينين، وإن عجز فبقلبه.

قالوا: دعنا منهم، وائتنا بأقوال من تأخر منهم.

قلت: ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه إذا نبت الشعر على الوجه سقط غسل ما تحته، فترك أبو عبد الله البلخي قولهم، وذهب إلى أنه لا يسقط غسله، وذهب الطحاوي في الوقت المستحب في الفجر إلى أنه إن كان من عزمه تطويل القراءة فالأفضل أن يبدأ بالتغليس بها، ويختم بالإسفار، فترك قولَ أبي حنيفة إلى قول غيره، وذهب محمد بن شجاع الثلجي إلى أن المسافر يقصر إذا خرج قبل الزوال، وإذا خرج بعد الزوال فإنه يُكمل الظهر، فترك قولَ أبي حنيفة إلى قول غيره.

قالوا: دعنا منهم، فإن تعداد أقوالهم يطول، وائتنا بأقوال من عاصرنا من فقهاء الحنفية.

قلت: قد ذهب شيخنا وشيخكم عبد الفتاح أبو غدة إلى الجمع بين الصلاتين للمسافر،

قالوا: دعنا من أقوال الحنفية العرب، فإنهم ساكنوا غيرهم وعايشوهم وتأثروا بهم فتساهلوا في أمور لا نرضاها، فأتنا بأقوال علمائنا الديوبنديين،

قلت: فقد لفَّق بعض علمائكم بين المذهب الحنفي وغيره من المذاهب بل والمذاهب الشاذة في الاقتصاد الإسلامي والتمويل الإسلامي،

قالوا: تبرأنا منهم وتبرأ منهم كبار علمائنا، فائتنا بأقوال الثقات من علمائنا في ديوبند.

قلت: فما تقولون في حكيم الأمة مولانا أشرف علي التهانوي؟

قالوا: هو أوثقهم وأورعهم، فائتنا بقوله،

قلت: ذهب أبو حنيفة في امرأة المفقود أنها تنتظر إلى أن يبلغ مائة وعشرين سنة/مائة سنة/تسعين سنة، وقال مالك: تنتظر أربع سنوات من حين فُقد، فأفتى حكيم الأمة بقول مالك.

قالوا: قد يشذ عالم في قول أو قولين عن الجماعة، فائتنا بما اتفقوا عليه،

قلت: فهذا قد اتفق عليه علماء ديوبند،

قالوا: ائتنا بمثال آخر، وقد أكثرنا عليك وأتعبناك، وإنا إن شاء الله لمهتدون.

قلت: فقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى عدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وسائر علوم الدين، وذهب الشافعي إلى جوازه، واتفق علماء ديوبند على الإفتاء بمذهبه،

قالوا: قد فضحتنا بمثالك هذا سائر اليوم، ووددنا لو أتيتنا بمثال غيره.