بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
(سلسلة مقالات تتعلق بتوثيق نسبة صحيح البخاري إلى مؤلفه، ومدى قيمة نسخة الفربري، وشرح أحاديث مشكلة من الصحيح)
قالوا: قد استثار بعض الناس أسئلة يشكك من خلالها في نسبة الصحيح إلى صاحبه، وأسَّس شكَّه على عدم وجود نسخة الإمام البخاري (ت 256هـ) لكتابه ولا يُدرى أين اختفتْ، وأن الرواة عن البخاري اختلفوا في الزيادة والنقصان والتقديم والتأخير، وأن الفربري اتهم بالتلاعب بنسخته، وأنه لم يُعَدِّله أحد حتى جاء أبو سعد السمعاني (ت 562هـ) بعد قرنين أو أكثر من وفاة الفربري فعدّله، وأن هناك أحاديث في البخاري تتعارض مع القرآن والمعلوم من الدين والعقل بالضرورة، فأفِدنا بما يحقق هذه الأسئلة تحقيقا علميا نرفع به شكوكنا وشبهاتنا، وتطمئن قوبنا إلى الصحيح اطمئنانا، وتستقر نفوسنا عليه استقرارا.
قلت: هي أن تسمى تهمًا أو ظنونا وأوهاما أولى من أن تسمى أسئلة أو شكوكا وشبهات، وسأعالجها في مقالات، أولها عن نسبة الصحيح إلى صاحبه، وأركز حديثي على خمس نقاط أُبرزها إبرازا، وهي: البحث عن الدافع الحقيقي من وراء التشكيك في صحيح البخاري، وبيان الفرق بين توثيق صحة الحديث وبين توثيق صحة نسبة كتاب إلى صاحبه، وأدلة نسبة الصحيح إلى البخاري، وأمثلة التوثق من صحة نسبة سائر الكتب إلى أصحابها، ورجحان البخاري عليها.
قالوا: حدثنا عن النقطة الأولى.
قلت:
الأولى: هي البحث عن الدافع الحقيقي من وراء التشكيك في صحيح البخاري، فاعلموا أن تصحيح الحديث وتضعيفه يتطلبان حفظا للأحاديث والآثار، وتمكُّنا من أصول المحدثين وقواعدهم، واضطلاعا من علم الرجال، ومعرفة للعلل، ثم درجة من تقوى الله تُذكّر المرء بعظم مسؤوليته تجاه أداء هذا الواجب، وإن أكثر الناس مجردون من بلوغ هذه الدرجة في العلم وحمل مسؤوليته أو مقصرون دونها تقصيرا، إنهم على يقين تام بأنهم إن انتحلوا هذا العلم، وادعوا تبوء هذا المكان وصححوا حديثا أو ضعفوه بان للناس كذب دعواهم، وانكشف عوارهم، وهم ساخطون من أحاديث في صحيح البخاري، تخالف المألوف لديهم، وتعارض أهواءهم، وتفسد عليهم أغراضهم، فبدلا من أن يتجرأوا على الحكم عليها بالوضع والنكارة والشذوذ والضعف ويقرروا ذلك الحكم بدلائل علمية وشواهد فنية استساغوا أن يخترعوا مزاعم تشكك في الكتاب كله، فإن وقع الشك في الكتاب سهل عليهم أن يختاروا منه الأحاديث التي يرضونها، ويرفضوا الأحاديث التي ينكرونها.
قالوا: فما النقطة الثانية؟
قلت:
الثانية: هي الفرق بين التوثق من صحة الحديث وبين التوثق من صحة نسبة كتاب إلى صاحبه، فالتوثق من صحة حديث يعتمد على مدى قوة سنده، وهذا أمر مجمع عليه بين ذوي العلم شائع في الأخبار كلها، أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، فلا سبيل إلى إثباتها إلا من طريق التوصل إلى سلامة طرقها ومصادرها، وهي أسانيدها، والتوثق من نسبة كتاب حديثي أو غيره إلى صاحبه يعتمد على أمور كثيرة، قد يكون السند بعضها، وقد لا يكون، ومنها كون ذلك الكتاب قد عُرفت نسبته إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، وكون أصحابه وأصحابهم يتداولونه ويتداولون محتوياته بالدراسة والبحث والنقاش، وكون عامة العلماء يستندون إليه ويحيلون عليه، وكون المعارضين له يتناولونه بالرد والنقض، وكون مخطوطاته متوافرة، وكون محتواه وأسلوبه ينمان على صاحبه، فمؤلفات المشاهير لا تعتمد على أسانيد، بل تعتمد على مجموعة أمور يؤكد النظر فيها نسبة تلك المؤلفات إلى أصحابها.
وهذا هو السر في أن البخاري الذي وصل إليه الموطأ بأسانيد كثيرة بعضها أقوى من بعض، وهو كتاب استفاض عن مالك، يروي أحاديثه في الصحيح من طريق عبد الله بن يوسف التنيسي، وعبد الله بن مسلمة القعنبي وغيرهما، وقد يخرجها إذا احتاج إلى إخراجها أكثر من مرة من طريق إسماعيل بن أبي أويس، وليس في مرتبة التنيسي والقعنبي، وإنما استجاز البخاري ذلك لكون أحاديث الكتاب لا تعتمد على إسماعيل.
قالوا: وما النقطة الثالثة؟
قلت:
الثالثة: هي أدلة نسبة الصحيح إلى البخاري، فإني أستحيي أن أعيش في زمان يحتاج فيه الإنسان إلى إثبات الشمس وضوئها، وتحصيل الحاصل، ومع ذلك فألخص لكم هذه الأدلة في أمور: (أ) تقدمه في هذا الشأن لدى شيوخه علي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم وعرضه الصحيح عليهم، (ب) واستفاضته عنه لدى معاصريه أبي زرعة وأبي حاتم ومسلم وغيرهم، وفي مقدمة مسلم إشارة واضحة إليه، (ج) واشتهاره لدى أصحابه وأصحابهم إلى يومنا هذا، وفي جامع أبي عيسى (ت 179هـ) نص على تسميته بالصحيح أو الجامع غير مرة، (د) وتداوله بين الأكاديميين دراسة ونقدا، فقد اعتمده النسائي (ت 303هـ) في سننه في تراجمه وتخريج أحاديثه، ونوه به إمام الأئمة ابن خزيمة (ت 311هـ)، وتناوله الدارقطني (ت 385هـ) وغيره نقدا قد يوافقونه وقد يختلفون عنه، (د) وتخريج الأئمة لأحاديث الصحيح من طرقهم، (ه) واستدراك الحاكم (ت 405) عليه، وإحالة البيهقي (ت 458هـ) وغيره عليه (و) وانتشار أسانيد الكتاب إليه إلى يومنا هذا، (ز) وتسارع الناس في كل قرن وفي كل بلد إلى أخذه من الشيوخ سماعا وقراءة وإجازة، (ح) وكثرة السماعات على نسخه كثرة تبعث على الدهشة والاستغراب، (ط) وكثرة مخطوطاته كثرة بالغة لا سيما بخطوط الأئمة المتقنين، (ي) وعناية العلماء به شرحا وتعليقا وتلخيصا واستفادة منه، (ك) وفوق ذلك كله أن المؤثر يعرف بأثره، والكتاب يدل بأحاديثه ومتابعاته ومعلقاته وتراجمه وتبويباته وترتيباته على صاحبه، فليس حديث من الكتاب إلا ويدل على أن البخاري هو الذي أخرجه، (إلا ما صرح الفربري أو غيره من الزيادة، وهو معلوم لا يختلط بغيره)، وليست ترجمة من تراجمه إلا وتشهد بصدورها من البخاري.
قالوا: وما النقطة الرابعة:
قلت:
الرابعة: هي أمثلة التوثق من صحة نسبة سائر الكتب إلى أصحابها، فاعلموا أن مؤلفات وإنتاجات أفلاطون، وأرسطاطاليس، ومحمد بن الحسن الشيباني، وسيبويه، والشافعي، وابن جني، والفارابي، والفرزدق، وجرير، والأخطل، وبشار بن برد، وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، والمعري، وابن سينا، والسعدي، والرومي، وحافظ الشيرازي، وغيرهم من المسلمين وغيرهم لا تعتمد على أسانيد، بل تعتمد على مجموعة أمور سبقت الإشارة إلى جلها في بيان النقطة الثانية.
قالوا: وما النقطة الخامسة؟
قلت:
الخامسة: هي رجحان البخاري عليها، فصحيح البخاري يرجح على هذه الكتب كلها في التوثق من نسبته إلى الإمام البخاري، فكل ما اجتمع في مؤلفات أرسطاطاليس وابن سينا والفارابي وغيرهم مما يؤكد نسبتها إليهم، فإن البخاري رجح عليهم بكون تلك الأمور مجموعة فيه وزيادة.
قالوا: قد أيقنا أن الكتاب من تأليف الإمام البخاري.
قلت: إننا نعرف شعر السعدي الشيرازي من غيره، وانتحل الناس أشياء باسمه، فاستبان لدى النقاد الغش، وكذلك غالب وإقبال ومير تقي مير من شعراء الأردية، لم يخف على ذوي الأدب والنقد معرفة الأصيل من شعرهم من دخيله ومنحوله، ووضع الناس أشياء باسم ولي الله الدهلوي فانجلى كذبهم، وقام أحد المحققين بنشر مجموعة من رسائل ولي الله الدهلوي، فطعن فيها بعض الطاعنين، ورفعت القضية إلى مولانا أبي الكلام آزاد، فقال: إن لغة هذه الرسائل تنطق بأنها للشاه ولي الله الدهلوي نطقا صارخا.
قلت: فاحمدوا الله عز وجل على هذا الكتاب الذي ليس لدى العالمين كتاب مثله صحة، وقوة، وكثرة علم، وغزارة فقه، وفيضان حكمة.