بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: نحضر دروسك فتنبهنا على صنوف من أخطاء العلماء في تعاملهم مع السنة النبوية وتقاصرهم عن استيعاب منهج أئمة الحديث، فأخبرنا عن أصل الغلط ومأتى الخلل،
قلت: يجمعه أمران: ما وقع فيه عامة العلماء، وما وقع فيه الخاصة منهم،
قالوا: ما الذي عمَّهم جميعا؟
قلت: شيئان.
قالوا: ما هما؟
قلت:
الأول: عدم تقصيهم لمعنى التصحيح والتضعيف، ومرده إلى إغفالهم طبيعة الحديث غير واعين لها ولا منتبهين إليها انتباها، فإن الحديث خبر وتأريخ، ولن يتوصل إلى إدراك حقيقته وتناول مغزاه إلا من اضطلع من علم التاريخ رواية لأحداثه وتحليلا لها ونظرا في أسبابها ووجوهها وعللها، وقد كان أئمة الحديث متمكنين من علم التأريخ في براعة ورسوخ، تأملوا آثارهم ومحادثاتهم ومناظراتهم تدلكم على صدق مقالتي وإصابتي للحق، فليحيى بن معين، وابن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن أبي حاتم وغيرهم كتب في التأريخ والرجال، وألف البخاري التأريخ قبل أن يعمل الصحيح، والأخبار تدخل فيها الأخطاء والأوهام والزيادات والإدراجات والأكاذيب والأباطيل وسائر البلايا، فبذل الأئمة قصارى جهودهم في تمحيصها وتنقيبها تحقيقا وتدقيقا، وبلغوا في تعاملهم مع المرويات أقصى الحذر والتوقي الذي لم يبلغه قوم من أهل العلم، وقد أحسن أولئك الأعلام إذ صنفوا الأحاديث إلى صحاح وحسان وضعاف ومناكير وواهيات وموضوعات، وألفوا كتب العلل التي تشهد بحذقهم في شأنهم وإتقانهم له، وسبقهم الناس في هذا المضمار وتفوقهم عليهم تفوقا واضحا.
ولايخفى أن من حفظ مسألة أو مسألتين من مسائل الفقه لا يسمى فقيها، وأن من تداول قضية أو قضيتين من قضايا المنطق لا يدعى منطقيا، وأن من كسب درهما أو درهمين لا يحسب غنيا، وهو أمر لا غموض فيه ولا حاجة إلى أن ينبه عليه، ولكن عامة العلماء لم يلاحظوا هذا الفرق بين الرواة، فسووا بين المتخصصين وبين من روى خبرا أو خبرين، وكم من أحاديث انفرد بها غير المتخصصين واستغربها الجهابذة بل وأنكروها نالت قبولا بين العلماء، حدثوا بها ورووها في كتبهم، ومنهم تلقفها العوام، ومن ثم اشترط أئمة الحديث شروطا في الرواة من الضبط وطول ملازمة الشيوخ وممارسة هذا الفن، واعتنوا اعتناء كبيرا بمخالفة الرواة بعضهم بعضا في النقل، وانفراد بعضهم عن بعض، وحكموا عليهم بقوة الضبط وخفته والغفلة فيهم، ووصفوا كثيرا من الأخبار بالغرابة والشذوذ والنكارة، وتجد المتأخرين أعلوها إلى الصحة والحسن بناء على تعدد طرقها واشتهارها بين الناس.
وكذلك الذين طرحوا الأحاديث من أجل المخالفة فيها لم يعرفوا طبيعة هذا العلم، فقد يكون الخبر يقع الاختلاف في أجزائه مع كون أصل الخبر صحيحا، وكم من أحاديث ثابتة وهي في كتابي البخاري ومسلم، ووقع اختلاف في بعض تفاصيلها، فجمع العلماء المتابعات والشواهد، وعرفوا مواضع الخطأ فيها، واحتجوا بالمحفوظ منها، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مقدمته في أصول التفسير ص 28: “والمقصود أن الحديث الطويل إذا روي مثلا من وجهين مختلفين، من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطا، كما امتنع أن يكون كذبا؛ فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة، وإنما يكون في بعضها، فإذا روى هذا قصة طويلة متنوعة ورواها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط في جميعها، كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة. ولهذا إنما يقع في مثل ذلك غلط في بعض ما جرى في القصة، مثل حديث اشتراء النبي صلى الله عليه وسلم البعير من جابر؛ فإن من تأمل طرقه علم قطعا أن الحديث صحيح، وإن كانوا قد اختلفوا في مقدار الثمن. وقد بين ذلك البخاري في صحيحه”.
الثاني: نظرهم إلى السنن كمصدر لهذا الدين مستقل، وإغفالهم أنها بيان لكتاب الله تعالى، تفصل مجمله وتشرح مشكله، فوقعوا في أخطاء، ويشبه خطأهم خطأ من أفرد الشرح عن المتن، أو البناء عن الأصل، قال العلامة عبد الحميد الفراهي في التكميل في أصول التأويل ص 34: “ﻓﻤﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻃﻤﺄﻧﻮﺍ ﺑﺎﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻨﻘﺪ ﻛﺄﻛﺜﺮ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﳌﺎ ﻋﻠﻤﻮﺍ ﺃﻥ ﻛﻼﻡ ﺍﻟﻨﱯ ﻻ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﻮﺍﻓﻖ ﺑﺎﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻛﻼﻡ ﺍﻟﺼﺤﺎﺑﺔ ﺑﻜﻼﻡ ﺍﻟﻨﱯ. ﻭﻭﺟﺪﻭﺍ ﰲ ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﻓﺴﺤﺔ. ﻓﺠﻌﻠﻮﻫﺎ ﺃﺻﻼ ﻟﻘﻠﺔ ﺍﳋﻄﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻭﻓﺴﺮﻭﺍ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ بها، ﺣﱴ ﺃﻥ ﺃﺻﺒﺢ ﺯﻣﺎﻡ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺑﻴﺪ ﺍﳊﺪﻳﺚ، ﻓﻘﻞ ﺍﻋﺘﻨﺎﺅﻫﻢ ﺑﻔﻬﻢ ﻣﻌﺎﱐ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭﺃﻭﻟﻮﻩ ﺇﱃ ﻣﺎ ﳜﺎﻟﻒ ﺁﻳﺎﺗﻪ. ﻭﻛﺎﻥ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﺄﻭﻟﻮﺍ ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﺇﱃ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ. ﻓﺈﱐ ﺭﺃﻳﺖ ﻛﻢ ﻣﻦ ﺭﻭﺍﻳﺎﺕ ﻣﺘﻀﺎﺩﺓ ﺣﺴﺐ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﺗﻮﺍﻓﻘﺖ ﺣﲔ ﺃﻭﻟﻨﺎﻩ ﺇﱃ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ”.
قالوا: ما خطأ الخاصة؟
قلت: خطأهم أنهم لم ينظروا في طبيعة كلام الأنبياء فأنزلوها إلى كلام الناس، وأكبر من أخطأ في ذلك صنفان من العلماء:
المتكلمون الذين حملوا الأحاديث على آرائهم الكلامية والعقدية، يأخذون من الأحاديث ما يوافق آراءهم ويرفضون ما يخالفها، يضربون بعضها ببعض، فالقدرية يقبلون أحاديث وينكرون أخرى، والجبرية يقبلون أحاديث وينكرون أخرى، وجرت على الشاكلة نفسها طوائف أخرى، مفرقين بين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم من عند أنفسهم، ولو اتهموا عقولهم لوجدوا أن الأحاديث متوافقة منسجمة، وأن آراءهم هى التي تفتقر إلى إصلاح ما فيها من الفساد، ورتق ما فيها من الفتق، وسد ما فيها من الخلل.
والفقهاء الذين عاملوا النبي صلى الله عليه وسلم معاملة المفتين، وأحلوا أحاديثه محل الفتاوى ومسائل فقهية، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم من أبعد الناس عن استعمال مصطلحات القوم.
قالوا: فما توصينا؟
قلت: أوصيكم أن تطالعوا كتب التاريخ، واطلعوا على مناهج المؤرخين، ثم تدبروا كتاب الله تعالى وابحثوا في السنن على أنها بيان له، واستأنسوا كلام الأنبياء، فلا تحملوا الأحاديث على مسائل علم الكلام والفقه أو سائر الآراء، والزموا مراجعة كتب الرجال والعلل ممعني النظر فيها عسى أن يفتح عليكم من هذا العلم الجليل المبارك.